نشرت صحيفة «واشنطن بوست» منذ أيام تحقيقا عن هجرة الأطباء المصريين الشباب إلى الخارج، وبخاصة دول أوروبا. ونٌقل عن طبيب شاب أن راتبه فى بريطانيا أربعين ضعف راتبه فى مصر، وذكر آخر أن الراتب الذى يحصل عليه فى المؤسسات الطبية فى مصر يكفى بالكاد لتغطيه المواصلات ووجبه الفطار، ولاسيما أن الكثير منهم يعمل طيلة أيام الأسبوع أو لساعات طويلة كل يوم. وقد استقال أكثر من 11 ألف طبيب منذ عام 2019. بالطبع تتعدد أسباب هجرة الأطباء إلى الخارج، منها ما يتصل بتوافر الإمكانات، وبيئة العمل المشجعة، وحماية الأطقم الطبية من أى اعتداء، ولكن يأتى فى مقدمتها الاعتبارات المالية التى تتمثل فى تدنى رواتب الاطباء، رغم أن الدولة اتجهت فى الفترة الأخيرة إلى رفع رواتبهم، وتقديم حوافز لهم. وتعمل العديد من الدول الاوروبية على اجتذاب الأطباء المتميزين من دول أخرى لسد العجز فى الأطباء فى نظامها الصحى، الذى كان وباء كورونا كاشفا له.
بالطبع هناك نقص فى الأطباء وفق المعايير الدولية، حيث إن المتعارف عليه ان يكون هناك ٢٣ طبيبا لكل عشرة آلاف نسمة فى حين ان النسبة فى مصر تصل إلى ٨ أطباء تقريبا لكل عشرة آلاف شخص.
وقد اكتسب التحقيق المشار اليه أهمية نظرا لأهمية المطبوعة التى نشر بها، لكنه لم يأت فى الحقيقة بجديد إذ سبق أن تحدثت نقابة الأطباء فى هذا الموضوع مرارا وتكرارا، وأثار عددا من الكتاب الأمر.
ويصعب أن نعالج مسألة هجرة الأطباء المصريين للخارج بالإشارة إلى الاعتبارات الوطنية، والحديث عن حب الوطن اولا، ومخاطبة هؤلاء الأطباء الشباب الذين يبحثون عن حياة أفضل بالخارج بأنهم غير بارين بالدولة التى تحملت أكثر من 99% من مصروفات تعليمهم كما ذكر البعض (هذا الحديث غير دقيق خاصة مع انتشار التعليم الخاص والاهلى فى مجال الطب)، أو نتجه للتعامل معهم بنفس الذهنية التى تطالب المصريين العاملين بالخارج بسداد مبلغ اجبارى.
يتطلب الأمر نظرة مغايرة، وافق أكثر اتساعا.
فمن ناحية اولى فإن المصريين بالخارج هم مصدر أساسى للعملة الصعبة، وبالامكان ان نتوسع فى الفرص الاقتصادية الجاذبة لهم. فقد يكونوا مصدرا مهما للاستثمار، وتطوير الخدمات العامة، ونقل الخبرات. وأتذكر انه منذ عدة سنوات أطلقت الأمم المتحدة مبادرة الهجرة والتنمية، والتى كانت تستند إلى قيام المهاجرين بنقل الخبرات الحديثة إلى مجتمعاتهم الأصلية.
من ناحية ثانية فإن المهاجرين المصريين يشكلون مصدرا مهما للدعم الإنسانى والاجتماعى فى مصر، وهناك العديد من المبادرات الاجتماعية المهمة التى يمولها مصريون فى الخارج بشكل تطوعى، لا يسلط عليها الضوء، وتجرى فى هدوء. فمثلا هناك مستوصفات فى احياء شعبية أو متوسطة الحال، تبرع اطباء مصريون فى الخارج بالاجهزة الطبية بها، وهناك مساعدات دوائية ومالية تصل دوريا لأسر فقيرة ومستترة، وغيرها من أوجه الرعاية الاجتماعية.
نحن بحاجة إلى امرين، الأول خلق بيئة مهنية مشجعة للأطباء، ماليا وفنيا حتى يبقوا فى مصر. وهنا يجب الإشارة إلى مسألة مهمة لا تأخذ عادة حقها فى النقاش أن المستشفيات المصرية احد مصادر العملة الصعبة، فيما يعرف بالسياحة العلاجية، والتى يجب أن نتوسع فيها، حيث يأتى إلى مصر أشقاء عرب للعلاج من السودان وليبيا والأراضى الفلسطينية، ونود ان نكون مقصدا طبيا مهما فى المنطقة. الأمر الثانى ابتكار أشكال متعددة حتى يساهم الأطباء المصريون المغتربون فى الاستثمار والتنمية فى مصر. نموذج العالم الرفيع الدكتور مجدى يعقوب، يجب أن يتكرر على مستويات مختلفة.
الأطباء المصريون سواء داخل مصر أو خارجها هم قوة ناعمة لمصر ينبغى الإفادة منها، واتاحة المجال أمامها للارتباط بوطنهم، ليس بالزجر والتبكيت، ولكن بالتحفيز والتشجيع واظن ان كثيرين منهم رغم ان هناك اسبابا عديدة دفعتهم إلى الهجرة، إلا أن بداخلهم روحا مصرية متقدة، ويودون خدمة بلدهم.