عودة زينات صدقى! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الثلاثاء 8 أكتوبر 2024 3:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عودة زينات صدقى!

نشر فى : السبت 7 سبتمبر 2024 - 8:30 م | آخر تحديث : السبت 7 سبتمبر 2024 - 8:30 م

يبدأ العرض المسرحى «الأرتيست»، من تأليف وإخراج محمد زكى، بصوت إسماعيل ياسين الحزين، وبكلماتٍ مثيرة للشجن والـتأمل، فى المونولوج الأشهر «عينى علينا يا أهل الفن.. يا عينى علينا»، فيمنح الحكاية عنوانها، ويذكّرنا بأهمية هذا الاستدعاء الذكى لسيرة سيدة البهجة زينات صدقى، وهو موضوع المسرحية. يغنى إسماعيل ياسين: «عينى علينا يا أهل الفن/ يا عينى علينا/ ناكل قرّ/ ونشبع زنّ/ وقلعْ عنينا»، «العمر كله عرق ودموع/ وشبع أو جوع/ وغنى وحرمان»،

ثم يأتى إلى قلب المأساة:
«نسمع كلام زى الكرابيج/ ويقولوا عنّا اللى ما يتقال/ شقانا بيسموه تهريج/ وحرق دمّنا لعب عيال». رأيتُ فى المعالجة التى أعادت «زينات صدقى» ما يتجاوز تقديم التحية إلى كفاحها وشقائها، فى سبيل حبها للفن، إلى تقديم التحية لكل أهل الفن الأشقياء بشغفهم، والذين يدفعون ثمن هذا الشغف بكل أريحية، فكأنه قدرهم المكتوب، وكأنه لا مفر من الضريبة القاسية. تتجاوز الفكرة المعاصرة ذلك أيضًا إلى تقديم التحية للفن المصرى عمومًا، أحد الوجوه المضيئة دومًا، وفى كل العصور، لهذا البلد بالذات الذى ساهم فى اختراع الفنون، وكتابة أولى صفحاتها، فمن غيرنا أولى بالدفاع عنها؟! معاناة زينات، وتبرؤ أهلها منها، وصورة المرأة الأرتيست المشوّهة، كلها عناصر تصنع دراما جيدة، ولكنها اكتسبت هنا بعدًا معاصرًا قويّا للغاية، هو سبب الاستدعاء الأهم، إذ ما زالت صورة الفن وأهله على حالها، رغم سنوات طويلة من الأفلام والأغانى والمسرحيات، بل إن هناك من يحرّمون الفن أصلًا، وهناك من يمتلكون ثنائية مدهشة: يعجبون بالفنان، ويسارعون للتصوير معه، ويشاهدون أعماله مرات ومرات، ولكنهم يحتقرون المهنة نفسها!! لا يوجد حرف فى المسرحية عن هذه النظرة الحالية، ولكن كل ما حدث لزينات يذكّرك بها، وكأن حال زينات، لو بُعثت من جديد، لن يتغير كثيرًا، ولن يتغير إصرارها على اختيار الفن أيضًا، ولا اختيار ابن أخيها وحبيبته كذلك للفن والتمرد، مهما كان الثمن. هذه أول عناصر ذكاء المعالجة: استدعاء الماضى من أجل الحاضر، وثانى العناصر العثور على لحظة درامية فائقة البراعة للبدء والتطوير، وأعنى بذلك لحظة حيرة زينات صدقى فى البحث عن فستان مناسب للذهاب لحفل تكريم الرئيس السادات لها فى عيد الفن فى السبعينيات، فتفتح دولاب ملابسها، ومع كل فستان ترتديه تنفتح أبواب الماضى المغلقة، وتعود تفاصيل رحلة الشقاء والحب والفن: هواية التشخيص، زواج بالإكراه، طلاق بعد الضرب وإساءة المعاملة، هروب من الإسكندرية، العمل كراقصة وكـ «كومبارس»، تبرؤ شقيقها منها، زوج آخر يطلقها رافضًا عملها، العثور أخيرًا على الذات فى الكوميديا، النجومية، ثم الأفول والانزواء، وأخيرًا ورطة التكريم، والبحث عن فستان. هنا لحظات درامية ثرية للغاية، وبراعة فى اختيار انتقالات الفلاش باك، بمساعدة أغنيات اختبرت بعناية من الراديو، رفيق أيام زينات، ثومة مثلًا تغنى «فكرونى تانى عنك»، فيتسع مفهوم الفن ليشمل الغناء، وفن ترزى زينات الإيطالى، وفن الشعر عند ابن أخيها، ويصبح الفن عنوان الحياة وسحرها وجمالها الباقى، وبالتالى يبدو جديرًا بما ستدفعه زينات بكل الرضا، ودون ندم. كانت هناك ملاحظات على هذا الطموح الفنى لم تحقق التماسك ولا التوازن فى كل الأحوال، فهناك لوحات كثيرة كان يجب اختصارها، مثل لقاء زينات مع أخيها وأولاده، وهناك لوحات كان من الأفضل البدء بها، وليس تأخيرها، مثل هواية زينات للتمثيل مع أخيها، وعقاب الأخ من والده، وهناك خط علاقة حب ابن شقيق زينات مع ابنة صديقتها الذى كان يجب تكثيفه، مع البدء مباشرة بمشهد إبلاغ زينات بتكريمها، فهذه نقطة البدء المثالية فى الدراما، وليس مشهد مغازلة ابن شقيق زينات لحبيبته فى بير السلم. ورغم إعجابى الشديد بموهبة وأداء هايدى عبد الخالق فى دور زينات، فإن اهتمامها بضبط نبرة صوت زينات، وطريقتها فى الأداء، أثقلها فى مشاهد كثيرة، وكان غريبا بالنسبة لى أن يتواصل هذا «التنميط السمعى والحركى» طوال فترات عمر زينات، من الشباب إلى الشيخوخة. كان من الأفضل الاكتفاء بزينات التى نعرفها فى مرحلة الشيخوخة، خاصة أن صوت زينات الحقيقى من تسجيل قديم، سيعود إلينا فى النهاية، وزينات أصلًا حاضرة صوتًا وصورة وحركة فى الأذهان، والأهم أن نرى زينات التى لا نعرفها، زينات الإنسانة، وليست الشخصية الفنية على الشاشة، زينات قبل أن تتكون تلك الشخصية، والتى صنعتها بموهبتها عبر سنوات طويلة. لم نكن أيضًا فى حاجة إلى اعتراف شقيق زينات بها، فالأقوى دراميا ألا يتغير شىء بعد التكريم، لقد بدا الاعتراف أقرب إلى نهاية أفلام الأبيض والأسود منه إلى منطق الدراما، ومنطق المجتمع التقليدى، والذى لم يتغير حتى الآن. ولكن محمد زكى عرف كيف يقدم نهاية قوية مؤثرة، بربط الزى الذى سترتديه زينات فى عيد الفن بعلاقتها بصديقتها خيرية، وبهذا الاستدعاء من الماضى، حيث نصحتها بأن تكون نفسها، وأن تختار زيا بسيطًا للغاية، فكأنه هويتها وموجز رحلتها، وكأن خيرية والماضى كله ما زال قويّا ومؤثرًا. لم يمت الفن ولا صاحبته، وليس على الفنان إلا ما سعى واستطاع، و«القالب غالب»، المهم هو زينات وقيمتها وحضورها وفنها، وليس فستانها، المهم هو جوهر قصتها وأسئلة حكايتها المستمرة، وليس بدايتها ولا نهايتها، المهم أنها كسبت الرهان، بأن «الفن أطول من العمر». ما زالوا يتذكرونها، ويكرمونها، ويدعوها الرئيس السادات إلى فرح ابنته، وابن وابنة شقيقها يرفضان العودة إلى أبيهما، ويفتخران بأن زينات عمتهما. ومثلما عاشت زينات مأساة الواقع، وضحكات الشاشة، جاءت المعالجة مزيجًا بين الاثنين، وبدلًا من تصفيق جمهور عيد الفن القديم، نصفق نحن لهايدى عبد الخالق، فيسترد الفنان عيده، على مسرح الهناجر. أتمنى أن تطوف هذه المسرحية جميع محافظات مصر، وأن يتواصل عرضها ما بقى الإقبال مستمرًا على مشاهدتها.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات