فرانسواز حدسها لا يخطئ - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 2:16 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فرانسواز حدسها لا يخطئ

نشر فى : السبت 8 يوليه 2017 - 9:30 م | آخر تحديث : السبت 8 يوليه 2017 - 9:30 م

قرأت منذ سنوات طويلة رواية للكاتبة الأمريكية بيرل باك بعنوان «حب طويل الأمد» أو Long love تدور فى محيط أسرة يعمل أفرادها بمجال نشر الكتب أبا عن جد. أسرنى ولعهم، واستهوانى عالمهم القائم على اكتشاف المواهب الحقيقية الجديرة بالاهتمام، وكيف يتم اختيار النص، وكيف كان التوازى بين أحداث حياتهم و ما يجرى بين ضفتى كتاب. ثم تكرر حماسى لطبيعة الحياة نفسها عند متابعتى لتفاصيل تجربة عائلة أخرى حقيقية، تعمل أيضا بمجال النشر، بعد النجاح المدوى الذى حققته، قبل سنتين، فرانسواز نيسين مديرة دار «آكت سود» الفرنسية، عندما حصدت الروايات التى نشرتها وقتها جائزة جونكور المحلية المرموقة وجائزة نوبل للآداب، وأخذت الصحف تتحدث عن صعود الدار التى صارت ملء السمع و البصر، بعد أن ظلت لسنوات، منذ تأسيسها فى نهاية السبعينيات، تحتفظ بسمعتها المحترمة، لكن دون ضجيج.
أسرنى مجددا عالم النشر، بفضل هذه العائلة اللطيفة التى تعيش أيضا وسط الكتب والمواهب فى جنوب فرنسا، تحديدا فى مدينة آرل، بعيدا عن الصخب الباريسى ومظاهر النجومية. قادها إلى مغامرة النشر الأب المولع بالكتابة، هيبير نيسين (2011ــ 1925) عندما قرر ترك العاصمة والتوجه جنوبا إلى نهر الرون، مع صديقته، لكى ينشئ دارا صغيرة للنشر، شاركه فى إدارتها فيما بعد ابنته فرانسواز وزوجها جون بول كابيتانى (مسئول التطوير) وبناتهما، حتى وصل حجم أعمال الدار عام 2015 حوالى 85 مليون يورو، وقد اتسعت وأصبحت تضم 300 موظفا بعد أن اشتروا دور نشر أخرى أصغر أو أكثر تخصصا، بالإضافة إلى 9 مكتبات معروفة كانت غير قادرة على الاستمرار والمنافسة فى السوق.
***
صورة السيدة فرانسواز التى بلغت حاليا السادسة والستين، بشعرها القصير ونظارتها المستديرة، وقد خلا وجهها من المساحيق، بابتسامتها الهادئة المعهودة، وشعارها الشغوف الذى ورثته عن أبيها: «أن تنشر هو أن تكتشف»، جذبونى أكثر فأكثر لكى أعرف المزيد عن هذه السيدة التى نالت جائزة محمود درويش للأدب عام 2013، والتى تقدمها المؤسسة التى تحمل اسم الشاعر الفلسطينى فى ذكرى ميلاده، بناء على توصية من عدد من الكتاب والمثقفين العرب، وذلك لدورها فى نشر الأدب العربى عامة وشعر درويش بشكل خاص. و هو العام ذاته الذى كرمتها فيه الدولة الفرنسية بتقليدها وسام جوقة الشرف.
منذ ثمانينيات القرن الماضى وهذه السيدة الجوزائية تتبع حدسها الذى لا يخطئ وتواصل مهنتها بشغف واضح، مدفوعة بحب استطلاع لا تبدده الأيام، رغم أن دراستها الجامعية فى بلجيكا كانت مختلفة تماما عن مجال عملها، فقد تخصصت فى الكيمياء وعلم الأحياء الجزيئى، ثم حصلت على شهادة أخرى فى مجال العمران الذى اشتغلت به فى بداية حياتها. وبين يوم وليلة، قررت أن تلحق بوالدها وتتجه جنوبا. قدمت استقالتها من وظيفتها بوزارة الثقافة قسم الهندسة، واستأجرت سيارة نقل لتقلها هى وزوجها وأولادها والبيانو والقطط إلى مدينة آرل حيث مقر «آكت سود». وظلت هناك منذ الثمانينيات، تنطلق من مغامرة إلى أخرى، تغوص فى أعماق الأدب العالمى لتفتح نافذة خاصة للآخرين على كل ما يعجبها، فصارت هناك سلسلة تعتنى بالأدب الأفريقى وأخرى بالأدب العربى (خاصة من خلال دار سندباد التى اشتروها بعد وفاة صاحبها سنة 1995). ازدهرت حركة الترجمة لنشر تجارب كتاب يروون عوالمهم الخاصة من أمريكا اللاتينية وألمانيا والسويد ومصر إلى المغرب، مرورا بفلسطين وسوريا ولبنان، من بينهم من أثار ضجة كسلمان رشدى أو التركية أسلى أردوغان. وفى خضم كل هذه العوالم واللقاءات، ظلت مديرة الدار تعرف من يعملون معها بالاسم، وظل الطابع العائلى هو المسيطر على المكان الذى أصبح نموذجا للعمل الثقافى الناجح والجاد. حتى عندما تعرضت لمحنة انتحار ابنها وهو فى الثامنة عشر من عمره لأنه لم يكن منسجما مع طريقة التعليم التقليدية فى المدارس التى لم تراع قدراته الخاصة، حاولت الأسرة التماسك وتحويل مرارة التجربة إلى أخرى أكثر إيجابية من خلال إنشاء مدرسة مختلفة فى كل شيء تترك مساحة للثقافة والحرية والروحانيات، وإن انتقدها البعض.
***
صارت فرنسواز نيسين أيقونة من أيقونات المجتمع المدنى، وتم تأكيد هذا المعنى باختيارها فى منتصف مايو الماضى وزيرة للثقافة والاتصالات فى الحكومة الجديدة، فهى قادرة باهتماماتها المتعددة وروحها وانفتاحها على الآخر ودرجة حساسيتها أن تطبق فكرة الثقافة للجميع وتعيد دورها كعنصر داعم للحمة مجتمع منقسم بشدة، نظرا للظروف السياسية والاقتصادية وفوبيا التطرف. ينتظر منها الفرنسيون الكثير و قد استبشروا بها خيرا، أما نحن فعندما نطلع على سيرتها الذاتية و آرائها فنقول فى سرنا: «عقبالنا يا رب»!.

التعليقات