تذكير ضرورى.. فى ذكرى محفوظ - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 9:39 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تذكير ضرورى.. فى ذكرى محفوظ

نشر فى : الجمعة 9 سبتمبر 2011 - 8:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 9 سبتمبر 2011 - 8:00 ص

مرت قبل أيام الذكرى الخامسة لرحيل كاتب العربية الأشهر والأكبر نجيب محفوظ، وحائز جائزة نوبل العربية الوحيدة فى الآداب حتى الآن، دون أن يتذكره أحد من الذين كانوا يتكأكؤون حوله كل أسبوع من الدراويش والمريدين، ومن أطلق البعض عليهم بأرامل نجيب محفوظ. يستفيدون منه، ويقدمون أنفسهم على أنهم خلفاؤه فى حمل مشعل الرواية وهم من تلك الخلافة براء. فلم يعد الرجل يفيد أيا من الذين كانوا يتمسحون به، ويستمدون من سمعته الحضور الإعلامى البائس، ويتلمسون منها بعض الجاه أو رأس المال الرمزى والنفوذ. لذلك لم يتذكر أرامل نجيب محفوظ الرجل بخير أو شر فى ذكرى رحيله الخامسة. مع أن قيمة الرجل، والقيم الأدبية أو الفكرية التى بلورها فى أعماله الإبداعية ظلت وستظل هاديا لكل من فهم مشروعه الأدبى، وتعامل معه بشكل نقدى عقلى جاد. أثنى عليه حينما استحق الثناء، وانتقده بشدة حينما حاد عن القيم التى بلورتها أعماله هو نفسه فى مجمل مسيرته، وخاصة فى تلك الفترة الحرجة فى آخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، حينما أيد الرجل اتفاق الشؤم المعروف بكامب ديفيد، ورحب بمعاهدة العار المعروفة بمعاهدة السلام، وحاول أن ييسر فى تلك الفترة عملية التطبيع البغيضة مع العدو الصهيونى.

ولقد كنت أحد الذين انتقدوا الرجل بشدة فى حياته حينها، وإن كان هذا النقد الذى ساهم فى تصحيح مساره، وتعديل تصوره لهذا الموضوع فيما بعد، لم يمنعنى من تقدير قيمته الأدبية، وتدريس نصوصه لسنوات فى كبريات الجامعات الغربية، بل وعمل أحد أهم الأفلام عنه عقب فوزه بجائزة نوبل للتليفزيون الانجليزى. فنجيب محفوظ قيمة أدبية كبيرة مهما اختلفنا معه، ومهما نأت الأجيال الجديدة عن مدرسته. بل إن هذه الأجيال الجديدة ما كان باستطاعتها أن تكتب ما ينأى بها عن مدرسته، وينطوى فى الوقت نفسه على أى قيمة روائية، دون الارتكان إلى صخرة إنجازاته الكبيرة التى رسخت مكانة الرواية فى الأدب العربى كله. ولاتزال روايته العظيمة، ونادرة هى الروايات التى يستطيع الناقد وصفها بالعظمة، (الثلاثية) والتى يعرفها العالم الغربى وغير الغربى باسم (ثلاثية القاهرة)، علامة فارقة، لا فى تاريخ الأدب العربى الحديث فحسب، وإنما فى تاريخ الأدب الإنسانى الحديث عامة. وعملا أدبيا كبيرا يزرع فى نفس كل من يقرأه حب القاهرة وحب مصر معها واحترامهما. بل إن هذه الثلاثية هى العمل الأدبى العربى الوحيد، بعد (ألف ليلة وليلة)، الذى صدر فى مكتبة Everyman التى تنشر كبرى كلاسيكيات الأدب العالمى فى العالم الناطق بالانجليزية، وبمقدمة ضافية لكاتب هذه السطور.

ولا تقتصر أهمية نجيب محفوظ على كتابة تلك الرواية العظيمة، ولا حتى على المتن الروائى الضخم الذى أنجزه، ولكنها تتجاوزها إلى أن مسيرته تجسد مسيرة الثقافة العربية، والوعى المصرى، على مد سبعين عاما هى عمره الإبداعى المديد. ازدهر حينما ازدهرت وانتكس حينما انتكست، فقد شهدت الفترة الليبرالية فى أربعينيات القرن الماضى وخمسينياته أعماله الواقعية الجميلة التى رسخت مكانته، وبلغت ذروتها فى ثلاثيته العظيمة. وسرعان ما أصبح فى ستينيات القرن الماضى «مؤسسة يجمع عليها اليمين واليسار والوسط»، على حد قول شهير للراحل الكبير لويس عوض، حينما جسدت أعماله أفضل ما فى هذه الثقافة من حس نقدى عقلى، وحينما كانت تعبيرا إبداعيا عن الضمير الجمعى. وكانت أعماله وقتها مدار اهتمام الواقع العربى من المحيط إلى الخليج. وحينما انتكست تلك الثقافة، نتيجة لضربة 1967 القاصمة، وبلغت تلك الانتكاسة قاعها بانتصار الهزيمة فى اتفاقية الشؤم فى «كامب دافيد»، عانت أعماله لا من المقاطعة العربية فحسب، وإنما من التجاهل النقدى والثقافى أيضا، وفى مصر نفسها. وأذكر كيف كان الكثيرون يشكون من تجاهل النقد لأعمال هذا الكاتب العملاق طوال ثمانينيات القرن الماضى وحتى فوزه بالجائزة الذى جلب له الكثير من الاهتمام الإعلامى، وهو غير الاهتمام النقدى والثقافى الحق.

وبلغت انتكاسة الثقافة المصرية حضيضا غير مسبوق مع مطالع التسعينيات حينما دس أحمق جاهل أمى لم يقرأ له حرفا سكينه فى رقبته، يريد قتله تنفيذا لفتوى جاهلة أصدرها حينها عمر عبدالرحمن الذين يرفعون الآن اللافتات مطالبين الولايات المتحدة (كذا) بالإفراج عنه. والذى كان وقتها من نجوم فترة الانحطاط تلك، والذين تهتم بهم الولايات المتحدة الأمريكية التى كانت ترعى طوال ثمانينيات القرن الماضى كل صنوف التطرف الأحمق باسم الإسلام (تمهيدا لشيطنته بعد ذلك بأعوام قليلة): من أسامة بن لادن وطالبان فى أفغانستان، حتى عمر عبدالرحمن فى مصر، التى هرب منها بعدها للسودان، ثم سافر إلى الولايات المتحدة بتأشيرة خاصة جدا، أصدرها مندوب مكتب «المخابرات المركزية الأمريكية» فى السودان، ووفرت له الحصول فور وصوله، وضد كل القواعد المعمول بها فى الولايات المتحدة نفسها، البطاقة السحرية الخضراء Green Card والتى لا يحصل عليها أى مهاجر للولايات المتحدة إلا بعد العمل الشاق لسنوات طويلة. كان عمر عبدالرحمن وقتها، وحينما كان يصدر الفتاوى التى يحلل فيها قتل كاتب كبير بقامة نجيب محفوظ ومكانته الدولية، هو رجل المخابرات المركزية الأمريكية المدلل، كما كان أسامة بن لادن نجمها الأثير فى الوقت نفسه.

لكن وطبقا للقانون البديع الذى بلورته مارى شيللى قبل قرنين من الزمان فى روايتها المهمة (فرانكشتاين) فإن مصير من يخلق أى كائن أو كيان شائه مثل فرانكشتاين ويرعاه، هو أن ينقلب عليه ربيبه ويقتله. هذا ما حدث مع عمر عبدالرحمن الذى اتهم بمحاولة تفجير مركز التجارة العالمى فى نيويورك وحكم عليه بالسجن، ثم مع أسامة بن لادن الذى يقال إنه فجر هذا المركز بالفعل فى أحداث 11 سبتمبر التى تحل ذكراها العاشرة هذا الأسبوع. وإن كان هناك من الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة من يقول إن الولايات المتحدة كانت واعية وهى تخلق فرانكشتاين وترعاه، وتحث حليفتها الأساسية فى المنطقة وهى السعودية للحفاظ عليه حيا وقادرا على إحداث الدمار أينما تشاء ووقتما تشاء، بالأخطار المحتملة لانقلاب فرانكشتاين ضدها، ولكنها خاطرت بقبول تلك الأخطار لوعيها بأنها طفيفة، بل تافهة، بالمقارنة بما يحققه لها فرانكشتاين من خدمات: ألم يعجل بانهيار الاتحاد السوفييتى ومنظومة الدول الاشتراكية معه؟ ألم يساهم بكسره لعدوها فى جعلها القوة العظمى الوحيدة فى العالم لأكثر من عقدين من الزمان ترتع فيه كما تشاء؟ ألم يساعدها على شيطنة الإسلام وتكريس العداء له، لا فى الغرب وحده وإنما فيما وراء الغرب كذلك؟ ألم يوفر لها الذرائع لاحتلال أفغانستان وتدميرها، ثم احتلال العراق وتدميره والاستيلاء فيه على أكبر مخزون نفطى معروف فى العالم؟ ألم يوفر هذا كله لربيبة الولايات المتحدة الأخرى فى المنطقة، وأعنى دولة الاستيطان الصهيونى فى فلسطين، مناخا أتاح لها ترسيخ الاحتلال وتكريس تبعية مصر لها، والمنطقة كلها وهوانها؟

ولنعد الآن لموضوعنا بعد هذا الاستطراد. لقد مرت ذكرى رحيل نجيب محفوظ دون احتفاء يذكر، فمصر الآن مشغولة بما يدور فيها بعد ثورة عارمة كتلك التى بدأ بها حياته صبيا، وعاش يلهج بالثناء عليها طيلة حياته، أعنى ثورة 1919. مصر الآن غارقة فى بلبال ثورة 25 يناير التى تجسدت فيها القيم النبيلة التى أمضى عمره فى تكريسها والذود عنها فى أعماله الإبداعية، والتحذير من العواقب الوخيمة لغيابها: قيم الحق والخير والعدل الاجتماعى والحرية والكرامة الإنسانية. وهى القيم التى انطلقت منها شعارات الثورة الأساسية: كرامة، حرية، عدالة اجتماعية. لذلك فإن التذكير بنجيب محفوظ وبمسيرته فى ذكراه الخامسة ضرورى، فما أشبه الليلة وتكاثف الظلمات فى أفقها بالبارحة. إنه ضرورى فى زمن يملأ فيه كل من أفتى أحد تياراتهم (وقد تنوعت الآن وتعددت) بقتله الصحف والقنوات التليفزيونية ليل نهار بخطاب طويل عريض يستهدف الالتفاف على رقبة الثورة حتى خنقها. ضرورى كى نستخلص دروس ما جرى له، ونستفيد منها فى مواجهتنا الشرسة لأعداء الثورة الذين رفعوا رايات السعودية فى ميدان التحرير، بينما يرفع الثوار رايات مصر فى إسبانيا واليونان. ضرورى فى مواجهة من يطالبون الآن «الولايات المتحدة» (كذا: صدق أو لاتصدق، بل اضحك ملء شدقيك) بالإفراج عمن أصدر الفتوى التى قادت للاعتداء الآثم عليه. وإذا كان نجيب محفوظ قد عانى من أعداء قيم العقل والعدل والحرية، فإن الثورة الآن تعانى هى الأخرى من الذين لم يشاركوا فيها، ويسعون الآن للانقضاض عليها، واقتطاف ثمارها. إننا الآن فى أشد الحاجة إلى تذكر سيرة الرجل وما جره عليه حبه الدائم لليبرالية والعلمانية والعقلانية وغيرها من القيم التى تعانى الآن من هجمة شرسة من قوى التخلف والظلام المدعومة بأموال النفط، وأفكار الوهابيين، وسموم المؤامرات الأمريكية وفرانكشتاينها.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات