جاءنى خبر سعيد قبل انتهاء سنة 2009 بأيام قليلة، هو حصولى على جائزة سلطان العويس الثقافية فى حقل الدراسات الإنسانية والمستقبلية، وهى جائزة قيمة ماديا ومعنويا، وتتمتع بسمعة طيبة بين المثقفين العرب. وقد ضاعف سرورى بها أن الثلاثة الآخرين الذين فازوا بها معى هذا العام فى الشعر والرواية والنقد الأدبى، كلهم من أحمل لهم تقديرا كبيرا، وهم الشاعر اليمنى عبدالعزيز المقالح، والروائى الجزائرى الطاهر وطار، والناقد التونسى عبدالسلام المسدى.
ذكرنى حصولى على هذه الجائزة، بما حدث لى منذ عشرة أعوام عندما حصلت على جائزة مصرية هى جائزة «أحسن كتاب فى معرض القاهرة الدولى للكتاب»، وهو ما لابد أن أرويه للقارئ، إذ إنه ينطوى على أشياء طريفة للغاية ولا تخلو من مغزى.
كان فرحى بحصولى على جائزة أحسن كتاب فى 1999يشوبه بعض الضيق. سرنى بالطبع أن يتكرر ذكر الكتاب وهو «ماذا حدث للمصريين» فى الصحف والمجلات خاصة أن تسميتها «جائزة أحسن كتاب» لابد أن توحى بشىء عظيم للغاية، كما أن وسائل الإعلام تغطى هذا الخبر تغطية واسعة ومفصلة لاقترانه باسم رئيس الجمهورية. ذلك أن الجائزة لا تزيد عن قيام رئيس الجمهورية بمصافحة الحاصل على الجائزة، ثم قيام وزير الثقافة فى اليوم التالى بمصافحته مرة أخرى، وتسليمه تمثالا صغيرا، ذهبى اللون، كتب عليه اسم الجائزة، واسم الحاصل عليها، واسم الكتاب الذى أعطى الجائزة من أجله. ولكن هناك من الملابسات الأخرى المرتبطة بهذه الجائزة ما لا يجب أن يبعث على الاغتباط على الإطلاق. أهم هذه الملابسات وأسوأها أنه من بين نحو عشر جوائز تعطى كل عام، تعطى الجائزة لنحو ستة أو سبعة كتب لا يقرأها أحد، ولا يريد أحد أن يقرأها، ولكن مؤلفيها يحتلون مناصب كبيرة فى ميدان الإعلام، كرئيس مجلس إدارة هذه الصحيفة الكبرى أو تلك، أو بعض المقربين جدا لرئاسة الجمهورية. بل لقد شاع الاعتقاد أيضا أن بعض هؤلاء الستة أو السبعة ليسوا هم حتى مؤلفى هذه الكتب، إذ أن انشغالهم بأعمال العلاقات العامة (الأكثر أهمية فى تمكينهم من مثل هذه الجوائز وما هو أهم منها)، يمنعهم من توفير الوقت اللازم للكتابة، فيكلفون بعض مساعديهم بكتابتها مقابل مزايا مالية معينة. شاع مثلا وصف أحد هؤلاء، ممن تعطى لهم هذه الجائزة فى كل عام تقريبا، بأن «عدد كتابه أكثر من عدد قرائه»، إذ يظهر له فى الأسبوع الواحد، أكثر من مقال وأكثر من عمود فى مختلف الموضوعات، من آخر التطورات الاقتصادية فى الصين، إلى المعنى الحقيقى للحب.. إلخ.
ليس إذن من دواعى الاغتباط الشديد أن يحصل المرء على جائزة«أحسن كتاب»، إذا حصل عليها أمثال هؤلاء فى نفس الوقت.
تسلمنا الدعوة لحضور الاحتفال وقد كتب عليها أن الاحتفال يبدأ فى العاشرة صباحا، ولكن المطلوب منا الوصول قبل ذلك بساعة. وجلست فى مقعدى فى انتظار وصول الرئيس. ولكن الساعة بلغت العاشرة والنصف ولم يكن الرئيس قد وصل بعد. خطرت ببالى فكرة ذكية، وهى أن من الحكمة أن أذهب الآن إلى مكان دورة المياه قبل أن يصبح ذلك مستحيلا، فأجد نفسى فجأة فى وضع لا أحسد عليه. كنت أذكر، من مرة سابقة دعيت فيها إلى لقاء الرئيس بالكتاب والمثقفين، أن دورة المياه الوحيدة فى هذا المكان تقع وراء منصة الرئيس مباشرة، وأن الحراسة المفروضة عليها شديدة، وأن من الممكن جدا أن يمنع الناس من دخولها بعد وصول الرئيس. أسرعت إليها فاكتشفت على الفور أنى كنت على صواب. فقد كانت دورة المياه الخاصة بالرجال قد تم تنظيفها وإغلاقها بالفعل، لكى تكون معدة لاستخدام الرئيس إذا شاء استخدامها. وأن الحجرة المفتوحة هى فقط تلك الخاصة بالسيدات، ولكن من المسموح للرجال استخدامها فى هذه الظروف الاستثنائية. دخلت دورة مياه السيدات، وعدت إلى مكانى ظافرا. وعندما سألنى جارى، وهو أستاذ علوم سياسية مشهور فى كلية الاقتصاد، عن مكان دورة المياه، أخبرته بمكانها وشجعته بشدة على استخدامها فورا حيث لا يمكن التكهن بما سيحدث فى المستقبل.
أسرع الرجل إلى دورة المياه ولكنه عاد وقد ارتسمت عليه علامات الحزن، إذ وجد كلتا الحجرتين مغلقتين.
سألت نفسى عن مصير المثقفين والكتاب فى هذه الظروف، ومعظمهم من كبار السن ممن لا يستطيعون بسهولة تأجيل مثل هذه الحاجات الأساسية التى تعتبر الثقافة والكتابة والإعلام بالمقارنة بها، من الكماليات والأمور الترفيهية. بدا لى هذا الوضع كوميديا للغاية، وإن كان أحدا لا يستطيع التعبير عنه بصراحة، كما أن جمهور المشاهدين للحفلة على شاشة التليفزيون لا يمكن أن يخطر ببالهم ما يمكن أن يشعر به فى ذلك الوقت بعض من أشهر كتابنا وأكبر مثقفينا.
بدأت كلمات التقديم والافتتاح، ثم ألقى الرئيس كلمة، ثم تتابعت الأسئلة والأجوبة، وهو ما استمر نحو ساعتين ونصف. وفى الواحدة والنصف بدأ الرئيس بالتحرك نحو الصالون المعد له، وكان قد قال فى الرد على بعض سائليه أنه يمكن أن يعطيهم الإجابة عن أسئلتهم الحرجة فى السر بعد انتهاء اللقاء العلنى، فلابد أنه سيلتقى بهؤلاء فى الصالون ليخبرهم بإجاباته. ما إن ترك الرئيس المنصة حتى تدافع عشرات المثقفين فى محاولة للخروج من القاعة ليقصدوا المبنى المجاور، ليستخدموا دورة مياه أخرى غير تلك الواقعة بجوار صالون الرئيس. ولكن حارسا ضخم الجثة كان واقفا عند باب الخروج، وأخبرهم بنبرة حاسمة لا تحتمل نقاشا أن الخروج ممنوع حتى تبدأ سيارة الرئيس فى التحرك، وهو ما لم يحدث بعد. ألقيت نظرة على بعض كبار المثقفين المصريين وهم يتلقون هذا الأمر بالانتظار، فلما عبر أحدهم عن استيائه، وصدرت منه عبارة يفهم منها حاجته الشديدة والعاجلة إلى استخدام دورة المياه، أجابه الحارس بأدب، ولكن بصرامة وحزم، بعبارة لا يمكن أن تجلب أى عزاء، مؤداها أنه هو نفسه فى وضع مماثل لوضع سائر المثقفين.