أبو زنيمة - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 8:16 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أبو زنيمة

نشر فى : الثلاثاء 9 أبريل 2024 - 6:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 9 أبريل 2024 - 6:55 م

قرأت هذا الاسم أول مرة فى عام 1988، فى دروسى الجامعية قبل التخرج عن جغرافية سيناء ومواقع التعدين فيها. حيرنى الاسم ولم يهدنى البحث إلى معنى له. 
لم تفلح الزيارة العابرة فى عام 1995 فى أن تعطينى شيئا عن حقيقة المكان، ولم ألمس صخوره وأجلس على حصى شطآنه مترويا فى المعنى والمغزى إلا فى عام 2007 حين وقعت فى هوى المكان وصار جزءا من حياتى.
أبو زنيمة ميناء لتصدير سبيكة الفيرومنجنيز (أو المنجنيز المطعم بالحديد) منذ زمن الاحتلال البريطانى نهاية القرن 19 ومطلع القرن العشرين.
الإنجليز الذين جاءوا لاحتلال مصر اهتموا باعتبار بلادنا جسرا إلى الهند واهتموا كذلك بسلب ثرواتها المعدنية التى يجهلها المصريون، ولا سيما خامات المنجنيز من جبال غرب سيناء.
كان علم الآثار هو الهادى لعلم الجيولوجيا الاقتصادية، فحين توصلت الأبحاث الأثرية إلى مواقع التعدين المصرى القديم منذ الأسرات الأولى فى سيناء اهتم الاستعمار الأوروبى بالبحث عن مزيد من الثروات للصناعة.
فى تلك الفترة كان الجيولوجى والجغرافى الإنجليزى الشهير «جون بول» قد سافر إلى سيناء وأعد دراسة وافية عن غرب وسط الإقليم تمهيدا للاستثمار الصناعي.
حين وصلت أبو زنيمة وتوغلت فى وديانها رأيت بعضا من روافع التليفريك المعلق فى السماء من آثار 100 سنة مضت. لقد جلب الإنجليز معهم تليفريك يأخذ الخامات من رأس الجبل وينزل بها إلى ساحل خليج السويس فى نقلة تكنولوجية مبكرة فى العالم.
خلال الفترة من 2008 وحتى 2012 صارت أبو زنيمة قبلتى ونسيت معنى الاسم وسط زحمة الصخور والصناعة القديمة والوديان والمنحدرات الوعرة وحبات التركواز المتناثرة منذ الحضارات القديمة.
وذات يوم، وبينما أعود من هضبة سرابيط الخادم ــ حيث معبد حتحور الشهير المجاور لاستخراج النحاس منذ عهد قدماء المصريين ــ نزلت إلى البلدة القديمة على البحر حيث أبيت كل ليلة.
كانت الشمس تنغمس فى هدوء فى مياه خليج السويس فى رحلة غروبها مؤذنة بنهاية اليوم وواعدة باللقاء فى صباح الغد من الجبهة الأخرى من فوق سرابيط الخادم.
كانت الرياح تحمل أدخنة المصنع وتلقى بها على بقايا مقام ومسجد قديم، فإذا بالدليل البدوى يتمتم فى نفسه قائلا:
«والله لم ينزل عليكم الخراب إلا بلعنات أبو زنيمة».
وكأن أبو زنيمة حى يرزق واسم إنسان نسيته فى غمرة الصخور والوديان فسألت البدوى الكريم عن تفسير لما قال.
كان المصنع يتراجع فى إنتاجه مع تراجع التنقيب على الخامات حتى كاد يتوقف عن العمل.
قال الشيخ البدوى: هذا ذنب أبو زنيمة.
مضى الشيخ يخبرنى أن البلدة وقبل أن يأتى الإنجليز بزمن بعيد وقبل أن يبدأ التعدين فيها، اتخذت اسمها منذ القدم تيمنا باسم الشيخ أبو زنيمة (انتبهت لوهلة أن «شرم الشيخ» الغارقة فى السياحة الأوروبية منسوبة إلى مقام شيخ من أولياء جنوب سيناء). 
عوادم المصنع التى نزلت على مقام ومسجد أبو زنيمة وأضرت به جعلت المكان غارقا فى الرماد والسخام والغبار ولم يعد أحد يسأل عنه ولا يهتم به.
«نزلت لعنات الولى الصالح على المصنع فتوقف عن الإنتاج» هكذا بكل بساطة وجد دليلى البدوى تفسيرا للموقف الجيولوجى والصناعى فى المنطقة.
فى اليوم التالى انطلقنا بسيارته المتهالكة نحو الشمال، كان الرجل يقود السيارة التيوتا وكأنه يركب جملا، يساعدها فى الصعود بأن يهز مقود السيارة، أو يحدثها بكلمات مشجعة، أو ينزل عليها غضبه فى مواقف التعثر الأخرى.
كان الرجل الخمسينى يمثل المرحلة الانتقالية بين الإبل والتويوتا. 
ومع ذلك، لم يكن حديثنا يتوقف عن كل شيء، حدثنى عن الشيخ «أبو جعدة» الذى كان يمشى على الماء فى خليج السويس فقلت له إن هذه القصة نفسها سمعتها فى مومباى عن الشيخ «حجى على بابا» الذى زرت ضريحه فرأيت آلافا من المريدين من الهندوس والمسلمين على السواء، لم يصدقنى الشيخ البدوى وقالى لى أبو جعدة وأبو زنيمة هما الأصل.
أكملت السيارة المتهالكة رحلتنا ووصلنا إلى جبل «وطا» وهو كتف ممهد خفيض فى هضبة عالية تفضى إلى صحراء التيه فقال لى: لقد انحنى الجبل لسيدنا موسى وانخفض ليعبره وقومه بعد هروبهم من مصر، ومن هنا جاء اسمه "وطا".
عدنا أدراجنا إلى أبو زنيمة، مرت الأيام خلف الأيام، والرحلات بعد الرحلات، وبقيت أبو زنيمة اسما ملغزا، يدفعنا إلى التفكير فى كل شىء فى الحجر والبشر ولا يعطينا سوى القليل والقليل من الأسرار.
ورغم كل هذا الثراء فإن أبو زنيمة ليست إلا ورقة شجر واحدة على غصن متفرع من شجرة سيناء الباسقة الوارفة المحملة بكل ثمار المعارف والعلوم فى الجغرافيا والسياسة والثقافة والجيولوجيا والأساطير.

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات