د. محمود محيى الدين يكتب: سبل التصدى لتداعيات الجائحة ومربكاتها - محمود محي الدين - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

د. محمود محيى الدين يكتب: سبل التصدى لتداعيات الجائحة ومربكاتها

نشر فى : الأربعاء 9 سبتمبر 2020 - 8:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 9 سبتمبر 2020 - 8:30 م

مثلما أصابت جائحة كورونا عموم الناس بالهلع والخوف على حياتهم وصحتهم وسبل تأمين معايشهم، فقد أربكت الحكومات والقائمين على موازناتهم بشأن تدبير متطلبات التعامل مع الأزمة الصحية والاضطرابات الاقتصادية المصاحبة لها مع تدهور فى أوضاع المديونية. وتعترض القائمين على السياسات المالية مشكلات تدبير الموارد المالية المطلوبة، فى ظل ركود اقتصادى يوشك أن يتحول إلى كساد وتزايد حالات البطالة والإفلاس. كما أضافت الجائحة بعواقبها الاقتصادية 265 مليون إنسان لقائمة المهددين بنقص حاد فى الغذاء حتى نهاية هذا العام، كما حدثت ردة فى نتائج جهود تخفيض من يعانون من الفقر المدقع لأول مرة منذ عام 1998 بزيادة أعدادهم المقدرة بما لا يقل عن 100 مليون إنسان.
وفى هذه الأثناء، تعانى خدمات أساسية كالتعليم فى الدول النامية الأكثر فقرا من فجوة تمويل تقترب من 200 مليار دولار سنويا، بما يهدد جيلا من التلاميذ أغلقت مدارسهم بفعل الوباء، وقد تستمر فى الإغلاق بسبب نقصان التمويل. وتجثم عدم عدالة توزيع الدخول والثروات والفرص بأثقالها، مانعة أطفالا وشبابا فى مراحل التعليم من الانتظام فى الدراسة، فلا سبيل لهم للاستفادة من البدائل الرقمية للتعلم من منازلهم، فإن لم يكونوا من 800 مليون شخص من المحرومين من خدمات الكهرباء أصلا، فهم يعانون حتما من عدم شمولهم بخدمات الإنترنت التى لم تصل بعد إلى نصف سكان الأرض، بما جعل 1.6 مليار طالب يعانون من عدم انتظام تعليمهم.
قد يأتى ناصح لمسئول حكومى فى بلد ما بمصفوفة الاختيارات المنطقية المتعارف عليها فى بعض مكاتب الاستشارات، فيذكر له أن عليك أولا التصدى للعاجل المهم من الشئون لتدبر لها التمويل اللازم، فيحتار المسئول عما سيفعله إذن مع تدفق لطلبات مهمة، وإن كانت غير عاجلة، وطلبات أخرى عاجلة بلا أهمية، وبماذا عليه أن يجيب ذوى طلبات لا هى مهمة ولا عاجلة، لكنها مساندة من جهات وفئات بعينها. ففى وقت الأزمات ومربكاتها يختلط الغث مع السمين، وتتوالى الاستغاثات من ذوى الحاجات الصادقة الملحة، وكذلك من قبل مدعين من مستغلى الأزمات وما يصاحبها من فوضى وعدم تقيد بالنظم المعتادة. قد يلوذ المسئول بمن هم أعلى منه سلطة لضبط الاختيارات وتحديد الأولويات ومخصصات تمويلها، لكنهم جميعا أسرى لقلة المعلومات الدقيقة؛ فكثيرا ما يكون الأكثر حاجة أقل حجة من الأعلى صوتا والأيسر نفاذا والأقوى نفوذا.
قد تكون لدى المسئول خطة أعدت من قبل، لكنها لن تتضمن بحال التعامل مع هذه الأزمات الاستثنائية التى تزامنت فى حدوثها وجاءت أكثر تفاصيلها بغتة ودون تحسب مسبق. وفى هذا قد يتذكر المسئول مقولة الرئيس الأمريكى والجنرال السابق دويت إيزنهاور، ومفادها «أن الخطة لا تعنى شيئا ولكن التخطيط هو كل شىء». فلا تخلو خطة من أهداف مرغوبة قد لا تكون محل اختلاف، ولكن كل الفرق يكمن فى وضعها قيد التنفيذ وكيفية التعامل بكفاءة مع ما يعترضها من عقبات من خلال الموارد المتاحة ترشدها الدلائل بالبيانات من دون أن تضل الجهود عن الهدف. وقد تكون هناك سيناريوهات لأزمات وتوقعات لها أو تحذير منها، بما فى ذلك ما كان من تحذيرات متكررة من الأوبئة والجوائح لم يحسن الوقاية منها من خلال نظم الصحة الوقائية، أو التوقى من مخاطرها اقتصاديا. وقد يجدر السؤال عن جدوى الحديث عن نظم لإنذار مبكر تطلق تحذيراتها، فلا يستجيب لها أحد فى البكر أو حتى بعد ضحى الغد. فعادة لا يتم التعامل مع الأزمات وهى فى أطوارها المبكرة، بل عندما تصل إلى معضلات عصية. فكثير من المجتمعات مشتتة بين إنكار للنوازل مهوّنة لآثارها فى البداية، ثم مبالغة فى التهويل من عواقبها بعد تأخر فى اتخاذ القرار، ثم تدخل الأمور فى خانات الاعتياد بعدما أصاب المجتمع من إجهاد، وقد تتناسى الأزمة برمتها ومسبباتها رغم استمرارها، بما جعل مجلة «الإكونوميست» البريطانية ودوريات أخرى تخرج منذ أسابيع محذرة للمتناسين لفيروس كورونا بأنه لم ينسهم بعد، مذكرة بأن التهاون قد أدى إلى الزيادة الكبرى لضحايا الإنفلونزا الإسبانية فى موجته الثانية منذ قرن مضى.
والمسئول فى وسط هذا كله أمام أمر واقع، فإذا ما كانت أزمة كورونا كاشفة عما تعانيه المجتمعات من تفاوتات زادت عمقا فى الدول المتقدمة وكثير من الدول ذات الاقتصادات الناشئة، فإنها موضحة بجلاء تهافت مقولات بأن الناس أمام الجائحة سواء. فهناك تباين واضح بين قدرات الدول على التعامل مع هذه الأزمة بأبعادها الصحية والاجتماعية والاقتصادية. وقدرات الموازنات جعلت بعض الدول النامية تنفق أقل من 1 فى المائة من دخولها لمواجهة طوارئ الأزمة وعواقبها ودول الاقتصادات الأغنى يقترب إنفاقها الإضافى من متوسط 10 فى المائة فى هذا العام. وفى حين تستطيع دول غنية تمويل إنفاقها بأسعار فائدة تقترب من الصفر، فإن دولا نامية زادت تكلفة إقراضها مع انخفاض حصصها من الأسواق المالية، ودولا نامية أخرى لا يمكنها مجرد التفكير فى الاقتراب منها. وسيؤدى هذا إلى مزيد من تراجع الأداء الاقتصادى والبطالة وانحسار عوائد التنمية.
ونميز هنا بين ثلاثة أنماط للإنفاق: أولا إنفاق عام ضرورى يجب استمراره للتعامل مع الاحتياجات العاجلة والطارئة للأزمة بالتركيز على قطاعات الخدمات الصحية والتعليم ونظم الضمان الاجتماعى التقليدية والمستحدثة، مثل نظم الدخل الأساسى الشامل. ثانيا، إنفاق عام بالمشاركة مع قطاع الإنتاج وأرباب العمل يستهدف النمو الاقتصادى المحقق لتشغيل العمالة التى تعطلت وتلك المتدفقة لسوق العمل، والمحافظة على الكيانات الاقتصادية القادرة على الاستمرار فى عالم ما بعد الأزمة. ثالثا، إنفاق عام بالمشاركة مع التمويل الخاص والقطاع المصرفى وأسواق المال يستهدف استكمال التعافى وإعادة البناء بتوطين التنمية المستدامة محققا أهدافها التى توارت بأولوياتها فى ظل الأزمة وتبعاتها. وهنا تكون قواعد الشفافية والإفصاح العام للكيانات الاقتصادية سندا للدولة ومسئوليها، يعرضون من خلالها ما جاءهم من طلبات للتمويل والمساندة، وعن تفاصيل توجهاتهم لتلبيتها فى حدود الموارد المتاحة والموازنات الاستثنائية والمعايير التى يستندون إليها فى النفقات العاجلة سواء للأفراد المستحقين للعون فى الأقاليم المختلفة الأكثر تضررا فى البلاد، أو للمشروعات فى القطاعات الاقتصادية الأولى بالمساندة، علما بأن هناك مشروعات لا تحتاج إلى عون أو دعم؛ فقد زادتها الأزمة أرباحا بحكم نشاطها، ومنها شركات تكنولوجيا المعلومات التى تقود البورصات. ومن الشفافية ما يعين الدولة على كفاءة تحصيل ضرائبها المستحقة وزيادة إيراداتها السيادية بحسن إدارة أصولها بدءا من النسق المحلى صعودا للنطاق المركزى، مع منع نزف الموارد التى تهدرها قلة الكفاءة، وتزايد حركة التدفقات المالية خارج البلاد بأساليب غير مشروعة كغسل الأموال والتهرب الضريبى عبر الحدود.
وقد قامت دول عدة بإعادة صياغة موازناتها وتحديد أولويات مؤسساتها الاقتصادية؛ لكى تجعل الإنفاق العاجل على طوارئ الأزمة متوافقا مع قواعد تحقيق التعافى والاستدامة من دون أن تفتئت إحداها على الأخرى، وفى هذا عمل شاق ليس فقط لتدبير الموارد، لكن فى المحافظة على سلامة الأداء الاقتصادى للدولة وترسيخ الثقة فى توجهاتها لدفع الاستثمارات الجديدة فى قطاعات الإنتاج؛ فمن دونها لن يتحقق نمو ولن تستديم تنمية.

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط

التعليقات