فكرت جيدا وحددت كلماتى بدقة قبل أن أطلب من المدير التنفيذى لليونيسيف أن يتّصل بمن يعرفهم فى المخابرات الأمريكية ويطلب أن يعتذروا علنا عما فعلوه ويعدوا بعدم تكراره، قال بلهجة جافة وملامح جامدة أنه يقدر عواطفى وغضبى، ولم يَعِد بشىء.
أخذت نفسا عميقا وسألته مباشرة بصوت حاولت أن يكون هادئا: ستحدث أصدقاءك والناس الذين تعرفهم إذا؟ (عمدت إلى استخدام هذه الألفاظ لأن الرجل كان مستشار الأمن القومى السابق ومرشحا ليصبح رئيسا لوكالة المخابرات المركزية CIA قبل أن ينسحب من هذا السباق ويُعين ترضية رئيسا لصندوق الأمم المتحدة للطفولة). صمت الرجل ممتعضا، ثم غيّر الموضوع. لم يتحدث لأحد فى الغالب بعدها، ولم تصدر المنظمة بيانا واضحا تنتقد فيه تصرفات عملاء المخابرات الأمريكيين.
كان هذا صيف 2011 وكنت أعمل مديرا عاما للإعلام والاتصال فى اليونيسيف فى نيويورك، وفى ذلك الأسبوع توالت التقارير عن انهيار حملات التطعيم ضد فيروس شلل الأطفال فى باكستان التى كانت، وما زالت، أحد آخر معاقل المرض اللعين.
تداعت حملات التطعيم بعدما استغلت المخابرات الأمريكية طبيبا باكستانيا ادعى أنه يعمل مع حملات التطعيم لدخول بيت كان يُشتبه بأنه مقر اختفاء زعيم القاعدة أسامة بن لادن وعائلته.
نجح الطبيب وتمكّن الأمريكان من قتل غريمهم العنيد بعد عشر سنوات من إعلان مسئوليته هو ومنظمته عن تفجير برجى مركز التجارة العالمى، ولكن هذا الانتقام فجّر أيضا حملات التطعيم التى كانت تتغلب ببطء على شكوك ومخاوف محلية بعضها ثقافى أو دينى.
أوصيت بأن تنشر المنظمة بيانا يندّد بما حصل وتوضح الآثار المدمرة لهذه العملية على حملة كانت تكلف، وما زالت، حول المليار دولار سنويا فى العالم، وعلى مصير عدد هائل من الأطفال المعرّضين للإصابة سنويا بهذا الفيروس.
• • •
طلبت من المدير أن يتصل بالإدارة الأمريكية ويطلب منها بشكل واضح ومشدّد عدم تكرار مثل هذه الأفعال فى أى بلد آخر، وعدم تخفّى أى من عملائها تحت ستار العمل فى حملات تطعيم أو فى منظمات إنسانية.
مر عامان قبل أن تتعهد الإدارة الأمريكية بعدم غرس عملائها بين موظفى المنظمات الإنسانية أو عمال الإغاثة وحملات التطعيم، غير أن الضرر الفادح كان قد وقع، وما زالت باكستان وأفغانستان الدولتين الأخيرتين فى العالم اللتين تعانيان من بقاء فيروس شلل الأطفال متوطنا فيهما.
يعتقد خبراء فى هذا المجال أن التراجع الأمريكى جاء نتيجة سببين رئيسيين هما: أولا: خطر هذا الفيروس على كل أطفال العالم (بخاصة من هم دون سن الخامسة)، إذ لا يمكن حصاره فى بلد من دون الآخر لفترة طويلة مع سهولة السفر والانتقال، وبالتالى اضطرار كل دول العالم سنويا لإنفاق مليارات الدولارات على تطعيم كل أطفال العالم. وثانيا: تصل نفقات حملات التطعيم، بخاصة فى بلدان الجنوب والمناطق الأفقر فى العالم، إلى نحو مليار دولار سنويا. وبالتالى، فإن القضاء على الفيروس هو مصلحة لكل دولة فى العالم، إضافة إلى الاعتبارات الأخلاقية والاقتصادية.
وعلى الرغم من هذا، ولأسباب عدة منها، شكّك أهالى الأطفال فى مناطق توطّن الفيروس فى حملات التطعيم وكذلك انتشار معلومات خاطئة أو مزيفة حول الطعوم ــ أو ارتباطها بمخططات غربية للتجسّس مثلما أثبت قتل بن لادن – ما زال هناك مئات الأطفال سنويا يُصابون بشلل فى الأطراف بسبب الفيروس. وما زال الأطفال على رغم مرور كل هذه الأعوام، ضحايا لعمليات عسكرية متنوعة من جانب دول مثل الولايات المتحدة وإسرائيل تحت مظلة ما يُسمى «حرب وقائية». تصدر تصريحات الأسف أحيانا لوقوع الضحايا وإن كانوا يطلقون عليهم مصطلح «الخسائر العرضية» بدعوى أنهم قُتلوا أو جُرحوا «من دون قصد»، بينما كان هدف العمليات العسكرية قتل «إرهابيين».
• • •
الخلفية السابقة لازمة لفهم حملة التطعيم الحاصلة منذ مطلع الشهر الحالى فى قطاع غزة، الذى تحتلّه إسرائيل فعليا وتقصفه يوميا. تتواصل جهود منظمات دولية ومحلية لتطعيم الأطفال فى القطاع المنكوب الذى قُتل نحو اثنين فى المائة من سكانه على الأقل بقنابل ونيران الجيش الإسرائيلى منذ بداية حملة تل أبيب الانتقامية منذ نحو العام.
هذه الجهود لا شك مدفوعة جزئيا بأسباب أخلاقية، ولكنها أيضا نابعة من قلق العالم ــ بخاصة الدول القريبة ــ من توطن الفيروس فى القطاع، بخاصة بعد إعلان أول حالة إصابة هناك هذا العام لرضيع عمره عشرة أشهر ــ وهو الحالة الأولى من نوعها منذ 25 عاما.
صار هذا الطفل محكوما بأن يمضى بقية عمره برجل مشلولة، وبات الأمل أن يظل على قيد الحياة من دون أن ينضم لأكثر من 15 ألف طفل وطفلة على الأقل قتلتهم النيران الإسرائيلية التى سلمت مئات الآلاف من الأطفال الباقين كضحايا محتملين لأمراض نفسية وعضوية وأهداف سهلة للبكتيريا والفيروسات.
لخصت أم غزاوية متطوعة فى الحملة هذا الموقف التراجيدى قائلة لإذاعة بى بى سى، إنهن يسعين إلى تطعيم الأطفال على رغم علمهن بأن أيا منهم يمكن أن يموت بنيران إسرائيل وقنابلها وصواريخها فى أى لحظة.
فى مقدمة أسباب العودة اللعينة لهذا الفيروس إلى غزة، تردى الخدمات والمؤسسات الصحية وتلوث مياه الشرب مع تهالك شبكاتها ومحطاتها وتدمير نظم الصرف، وهذا كله بسبب الحملة العسكرية الإسرائيلية الشرسة التى دمرت معظم البنية التحتية والصحية، وجوّعت الفلسطينيين والفلسطينيات بسبب حصار صارم وتخفيض حاد لما يصل لهم من غذاء ودواء، ما جعلهم فريسة أسهل للأمراض.
ربما لو لم يكن الفيروس ينتقل عبر الحدود لما شهدنا هذا الاهتمام كله بحملة التطعيم الجارية فى غزة، وربما لو كانت الولايات المتحدة (وإسرائيل) تهتم بحياة المدنيين والمدنيات والأبرياء خارج حدودها أو بين غير شعبها، ولا تسمى القتلى منهم فى حروبها «الوقائية» أو الانتقامية خسائر عرضية، لما شهدنا هذه المآسى تتكرر منذ التسعينيات.
من المهم أن نقوم بالتحليل والنقد والكشف لتعرية كل هذه الالتباسات فى المعايير والدوافع المحيطة بقضية شلل الأطفال وتوثيق ما يجرى. وفى الوقت نفسه، يتعين السعى وبقوة إلى ضمان استمرار حملات التطعيم فى غزة لتغطى مئات آلاف الأطفال بكل الجرعات المطلوبة.
ويمكن العمل على المسارين فى الوقت نفسه: مسار يوثق تلك المسئولية التاريخية الجسيمة لدول وحكومات عن بقاء الفيروس ينهش فى أجساد أطفال البشر، بخاصة لو كان معظم هؤلاء البشر من «الآخرين»، أى دول الجنوب أو الفقراء أو الفائضين عن الحاجة.
ومسار آخر يعمل بقوة مستغلا كل الحجج بما فيها مصلحة هذه الدول والحكومات نفسها ومواطنيها ذوى الحماية الأفضل لضمان القضاء المبرم على هذا الفيروس، مرة واحدة وللأبد.
وبعدما ننجح فى هذا يمكن ساعتها أن نركز جميعا على استغلال ما تم توثيقه لفضح المتورطين وجبر الضرر والمطالبة بالتعويضات وضمان ألا يتكرر هذا الظلم الفادح، أو هكذا نأمل.
خالد منصور
موقع درج