دولة تتمرّغ فى اشتهاء الجثث - من الصحافة الإسرائيلية - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:04 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دولة تتمرّغ فى اشتهاء الجثث

نشر فى : السبت 9 أكتوبر 2021 - 7:25 م | آخر تحديث : السبت 9 أكتوبر 2021 - 7:25 م

لا يمكن وصف المطاردة المجنونة لجثة رون آراد إلّا بأنها اشتهاء الجثث، باسم الدولة. جثة رون آراد ليست العَرَض الوحيد لاشتهاء الجثث فى سلوك إسرائيل، فى الأعوام الأخيرة بصورة خاصة وأساسية، لكنه أشدّ هذه الأعراض خطورة. إسرائيل تنبش وتنقّب: تارة عن ساعة اليد الخاصة بإيلى كوهين، الجاسوس الذى أُعدِم قبل أكثر من نصف قرن، وتارة أُخرى عن معطف زخاريا باومل وحذائه، اللذين استُعيدا ملفوفيْن بالعلم الوطنى فى حفل مَرَضى مروع فى ديوان الرئيس الروسى، وتارة ثالثة عن بقايا الجنديين اللذين قُتلا فى غزة.
الدولة التى تحتقر حياة الإنسان الآخر تقدّس جثث موتاها. دائما ما يجرى هذا باسم القيم المزعومة؛ ودائما ما يكون نصف العالم ضالعا فى هذا، بقيادة أجهزة الظلام الإسرائيلية التى تتمكن من استعراض سر مجدها، مرة تلو أُخرى؛ ودائما ما يثير هذا تساؤلات عن مدى رجاحة العقل والصحة النفسية لدى مَن يقفون خلف هذه العمليات المَرَضية. وإن لم يكن هذا كافيا، فإن إسرائيل تتاجر وتُضارب بالجثث أيضا. فقد امتلأت ثلاجاتها بالجثث وهى تحتجز عشرات الجثامين الفلسطينية «أوراقَ مساومة».. إذا لم يكن هذا هو اشتهاء الموتى، فما هو إذا؟
الجميع راضٍ. العائلات الثكلى، الوحيدة التى يخصها الأمر، تتوق إلى معرفة أكثر ما يمكن من تفاصيل عن أعزائها؛ وسائل الإعلام التى تضخّم هذه القصص إلى أبعاد غريبة وقبيحة، لا لشيء سوى لأغراض تجارية ــ قصص الألم والبطولة المعروفة ــ والأجهزة الظلامية بالطبع، التى تتهيأ لها فرصة أُخرى للفوز بهالة البطولة والغموض، ثم الميزانيات الإضافية. نبش قبر فى لبنان واختطاف جنرال إيرانى فى سورية والفوز بعناوين رئيسية.
كم يعشق رؤساء الحكومات هذا، أيضا: بنيامين نتنياهو برفقة فلاديمير بوتين مع حذاء باومل؛ نفتالى بينت الجديد، وكشفٌ جديد فى الكنيست. عملية رون آراد مُنيت بالفشل مرة أُخرى، لكن فى صحيفة «يديعوت أحرونوت» توّجوا صفحتهم الرئيسية بالعنوان: «يدُ إسرائيل الطويلة»، كما يحبون وكما يحب قرّاؤهم، بينما قال مصدر أمنى إن العملية «قدمت إسرائيل» (إلى أين؟) و«محورت الجهود» (حول ماذا؟). نص إلزامى لكل حصة تدريسية فى البهلوانيات اللغوية.
ما العيب فى هذا، ظاهريا؟ الدولة تهتم بجنودها، الأحياء منهم والأموات. قد يكون الأمر مثيرا، لكنه قد يكون منفّرا، شائنا وخطِرا أيضا. عندما يصبح اشتهاء الموتى هو الأساس، عندما يجرى تعريض حياة البشر للخطر من أجله، عندما تُهدَر أموال طائلة وتُرتَكب ممارسات يُحظَر على دولة قانون القيام بها، لا يمكن ولا يجوز الإعجاب بفنون الألعاب النارية. لماذا مسموح لإسرائيل اختطاف جنرالات ونقلهم إلى أفريقيا لانتزاع المعلومات منهم؟ هل سيكون شرعيا أيضا اختطاف جنرالات إسرائيليين ونقلهم إلى أفريقيا لانتزاع معلومات منهم عن جندى مصرى ميت؟ هل سيكون شرعيا احتجاز مخطوفين من لبنان فى سجن إسرائيلى وتعذيبهم بوحشية طوال أعوام، فقط من أجل انتزاع معلومات لم تكن تتوافر لديهم عن طيار ميت؟ من الحتمى أن تكون ثمة لحظة معينة تضع فيها الدولة حدا نهائيا لهذا الجنون وتعلن: هيا بنا ننشغل بالحياة.
لكن هذه دولة الاستعراضات. جيمس بوند من مقبرة النبى شيت فى لبنان، هو عنوان الفيلم القادم قريبا. العيون تلمع مشرقة. لا مثيل لنا. لكن الألعاب الاستعراضية لا توصل، أبدا، إلى أى مكان جيد، تماما مثل الاغتيالات التى تكمن قوتها الأساسية فى قصص البطولة التى ترافقها. هذه ليست مجرد طريقة للتبجح ــ لدينا «موساد» يختطف أشخاصا وينبش قبورا فى كل مكان ــ بل هى طريقة لصرف الأنظار عن الأسئلة والقضايا المهمة، أيضا. النقاش الوحيد الذى يجرى الآن هو حول السؤال: هل فشلت هذه العملية أم لم تنجح، فقط؟ لكن أحدا لا يسأل: من أجل ماذا؟
من أجل ماذا تجرى التفجيرات، والاغتيالات، وأعمال التخريب، والحرائق، والأحداث الغامضة العديدة فى سوريا وإيران، إذا كانت إيران قد أصبحت قاب قوس وأدنى من امتلاك السلاح النووي؟ ماذا تأتّى من هذا كله، غير مجد أجهزة الظلام؟ وماذا تأتّى من عمليات اغتيال الفلسطينيين على مدار أعوام عديدة، غير إشباع غرائز منفذيها؟ ذات مرة، كان لا يزال بالإمكان تغليف كل شيء بالاعتبارات والضرورات الأمنية. أمّا جنون رون آراد فلا يمكن تغليفه سوى بثرثرة «التراث». لكن فى نهاية المطاف ينتصب السؤال بكامل قوته وحدّته: متى سنكبر ونُفطَم؟

جدعون ليفي

محلل سياسى
هاآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية

التعليقات