أمام العَدَسَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 3:54 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أمام العَدَسَة

نشر فى : الجمعة 10 أبريل 2020 - 9:45 م | آخر تحديث : الجمعة 10 أبريل 2020 - 9:45 م

في زيارةٍ قصيرةٍ لمَنفَذ إحدى الشركات التي ذاع صيتُها مُؤخرًا في مَجال الإضاءة؛ انتبهت لمرأى عدسةٍ صغيرةٍ مُثبَّتة في الخلفية، تواجه ظهرَ البائعِ وفي الوقت ذاتِه تنظر إلى وجوه زبائنه. بدا وجود العدسة في مثل هذا المكان شديد الضيق والذي يتَّسع بالكاد للبائع، وزبونٍ وحيد لا فُرصة لابتعاده ولو لخطوةٍ أو اثنتين؛ أمرًا عجيبًا ومحركًا لعلامات الاستفهام.
***
حدَّقت طويلًا في العدسة حين اكتشفتها، لكني لم أسأل البائعَ عن سَببِ وجودها؛ فيما هو وزبونه يرى أحدهما الآخر، ولا يمكن أن يقعَ تصرفٌ في غَفلَةٍ من أيهِما، أو في ذروةِ ازدحام المكانِ الذي لا يُتيح بطبيعتِه اكتظاظَ الناسِ، ولا يسمح بحضور أكثرَ مِن فردين في الوقت ذاتِه.
***

في زيارتي الثانيةِ والأخيرةِ للمَنفَذ؛ صعدت درجاتِه الأربع واحتلَلت المكانَ كي أحصلَ على المُشتروات التي طَلَبت حجزَها سلفًا، وإذا بعجوزٍ تظهر على عتباتِ الدرجةِ الأولى مِن السُلَّم، تمُد يدَها بنقودٍ مَحسوبة، وتطلُب مِن البائعَ نوعًا مُحددًا مِن الإضاءات. أشار لها البائع: ”اتفضلي حضرتك“ فاعتذرت عن صعودِ الدرجات المَعدنية المُرتفعة: ”معلش يا بني ناولها لي أنت“. أعاد البائع دعوتَه لها بالصُعود نافدَ الصبر، مُغتاظًا مِن رفضِها؛ فاضطرَّت المرأةُ إلى الاستفاضةِ في الشرح: ”معلش أنا ست كبيرة ومركبة مفصل في الركبة ما قدرش أطلع“. مَدَدت يدي صانعةً حَلقةَ وَصلٍ بينهما، فارتبك البائع وتوترت نبراتُ صوتِه: ”ما ينفعش لازم الكاميرا تصوَّرِك“، أخفَيت دهشتي لبُرهة ريثما تتضِح الأمور، وأمام إصرارِه وإصرارِها وانضمامي لصفِّها، التَقَط الهاتفَ وطَلَب رقمًا يحفظه واندفع يقول: ”واحدة ست كبيرة مش عايزة تطلع.. أعمل إيه؟“
***
تنتشر كاميرات المُراقبة في مَناطق التجمُّعات العامةِ ومُختلَف الأسواقِ التجاريةِ والمحلات، خاصة تلك التي تحوي بضائعَ ثمينةً يخشى أصحابُها سرقةً عابرةً أو مُتكَرِّرَة. عدساتٌ صغيرةٌ مُثبَّتة في الحوائطِ والأركان؛ بعضُها مَخفِيٌّ بمهارةٍ، والبعضُ الآخر واضحٌ كما الشَّمس يُحذر المُتسَوِّقين من مُحاولاتٍ وتصرفاتٍ يُعاقِب عليها القانون. لا يَسلَم مكانٌ عام من عَدسةٍ ما؛ تُسجِّل الوقائعَ وتحتفظُ بها لفترةٍ تِتيح الرجوعَ إليها عندَ الحاجة.
***
الهدفُ المَنطقيّ المُباشر للكاميرات المُنتشرة في كلِّ مكان؛ يتمَحوَر حولَ الحِماية والوِقاية، ولا يحتاج إلى شرحٍ وتَفصيل؛ لكن أداءَ البائعِ والعباراتِ الغامضة التي صَدَرت عنه مثلا لغزًا. لم يكُن المَوقف برمَّته مِن الخطورة والأهمية كي يتعيَّن الحصولُ على إذنٍ خاص، يسمح للعجوز بشراء ما تحتاج؛ دون أن تلتقطَ الكاميرا صورةً لها. لم يكُن هناك مُبَرِّر مَفهوم لما أبدى البائع مِن عَنَت ثم مِن ضيقٍ وغَضبٍ إزاء امتناعِها عن الصعود، لم يكُن مِن سببٍ جَليّ يُفسِّر مُحاولاتِه الحثيثة دفعها لارتقاء الدرجات شِبه العمودية؛ التي ستتسبَّب ولا شكَّ في إيذاءِ مُتجَدِّد لركبتِها العليلة.
***
بدا وجود الكاميرا في هذا السياق أمرًا غامضًا وعبثيًا بامتياز. قلت في نفسي ربما يهتَم أصحابُ الاسم التجاريّ الشهير بمُتابعةِ سلوكِ البائعين، وبتقييم مُعامَلتهم للزبائن؛ لكن صياحَ البائعِ في العجوز وجفاف عباراتِه حذفا هذه الفرضيةَ مِن ذِهني تمامًا، وجعلاني أمِيل إلى فرضيَّاتٍ أخرى لا تتعلَّق بجودةِ الخِدمةِ، ولا ترتبطُ بإجراءاتِ الأمنِ والسَّلامة. تابعت توسُّلات العجوزِ واستعطافاتِها، والتساؤلاتُ وإجاباتها المُحتَمَلَة لا تكُفُّ عن التُوالُد في رأسي.
***
في الآونة الأخيرة؛ انتشرت عدوى المُراقبة مِن العامِّ إلى الخاصِّ ومِن السُلطَةِ إلى الأفراد. أعرف أشخاصًا هوايتهم مُراقبةِ الآخرين. يضعون كاميرات في الأمكِنة التي يملِكون التصرُّف فيها؛ بهو العمارةِ، مَحل بقالةٍ صغير، مكتبة يتركز نشاطها في تصوير الأوراق والمذكرات، أعرف أيضًا من يثبت عدسة في شرفته يتابع من خلالها العابرين جيئة وذهابًا. في التنصُّت على حياة الناسِ والاطلاع على تفصيلاتِها دون علمِهم إثارةٌ، وفي تنبيهِهم إلى أنهم مُراقبون دومًا تلويح بمبلَغِ السَّيطرة والتحكُّم المَفروضين، وفي الحالين خرقٌ للخصوصيةِ وانتهاك للمساحةِ الشخصيَّة المُحرَّمَة، واعتداءٌ على حقُوقٍ ينبغي احترامُها؛ لكن عصرًا تخضع كُلُّ ذرة فيه إلى مُراقبةٍ لصيقة؛ يجعلُ الكلامَ عن أسرارٍ وخصوصياتٍ وهالةٍ تُحيط بكُلِّ فردٍ لا يجوز التعدِّي عليها؛ ضربًا من ضُروبِ الخيال.
***
حَصُلَ البائع فيما يبدو على مُوافقةِ رئيسِه، وتجاوَزَ عن ضرورةِ تصوير العَجوز. أخذ النقودَ وسجَّل رقمَ هاتفِها وسأل عن البطاقةِ الشخصيَّة ولم تزل علاماتُ التضَرُّر والتوتُر ظاهرةً على ملامحِه، وأخيرًا أعطاني ما طَلَبَت؛ فنزلت درجةً أناولها إياه، ومَكثت لحظاتٍ أتابع خطواتها المُتمَهِّلة وهي تنصرف ظافرةً بمُرادها بعد طولِ إرهاق، استدرت أكمل ما بدأت، وحرصت في صعودي على أن أبقى بقُربِ الحافة؛ بعيدًا عن مجال العدسة.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات