جمهورية المشاعر والشعائر - إبراهيم الهضيبى - بوابة الشروق
الخميس 10 أكتوبر 2024 5:41 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جمهورية المشاعر والشعائر

نشر فى : الجمعة 10 أغسطس 2012 - 9:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 10 أغسطس 2012 - 9:06 ص

فى أول خطاباته للشعب عشية إعلان نتيجة الانتخابات تحدث الرئيس محمد مرسى عن «حب لا يعلمه فى قلبى إلا الله» للقوات المسلحة ورجالها أينما وجدوا، وكذلك للشرطة والقضاء، وغيرها من مؤسسات الدولة، ووجه كلامه ــ فى هذا الخطاب وما تلاه ــ للشعب، بفئاته ومؤسساته المختلفة قائلا «أحبكم جميعا».

 

وفى الأيام الأولى لتوليه السلطة، وقبل انتهائه من تشكيل فريقه الرئاسى، أو تكليف رئيس وزراء، وبالرغم من «التربص» به (بتعبير أحد قيادات الإخوان) سافر الرئيس لأداء العمرة، وعاد منها ليظهر فى صلاة التراويح، والتى يلقى الدروس على المصلين خلالها.

 

بدا الرئيس منذ الأيام الأولى لحكمه منشغلا بحديث المشاعر وأداء الشعائر، بينما يواجه محاولات حثيثة لإفشاله، من قبل شبكات مصالح نظام مبارك المتمكنة من مؤسسات الدولة، والتى تحارب من أجل بقاء المؤسسات على شاكلتها ومنع أى تغيير يؤثر سلبا على مصالحها ونفوذها، وشبكات المصالح المحيطة بأجهزة الدولة، من رجال أعمال وغيرهم، ممن استفادوا من الوضع القائم، ويحرصون على عدم تغيير أشخاصه ولا آلياته ولا هياكله، ومن قبل أطراف إقليمية ودولية تحرص على عدم تغيير موازين القوى الإقليمية.

 

••• 

 

ويأتى التركيز على خطاب المشاعر فى وقت ينبغى للرئيس أن يكتسب ثقة الناس قبل تعاطفهم، وذلك بإنجاز ما وعد بتحقيقه خلال الأيام المائة الأولى لتوليه السلطة فى ملف الخدمات، أو بالتعامل الجاد والحاسم مع ما يواجهه المواطن من تحديات، كالانقطاع المستمر للكهرباء، واشتعال العنف الطائفى مرة بعد أخرى، والتقصير العسكرى والمخابراتى الجسيم المهدد للأمن القومى، الذى أدى لمقتل المجندين، وسرقة المدرعات.

 

والتعامل مع هذه الملفات يستوجب اتخاذ حزمة من الإجراءات العملية الشجاعة، التى يستند فيها الرئيس إلى الشرعية الديمقراطية التى أتت به رئيسا، ويستهدف بها استعادة السلطة للمدنيين، وتغيير هياكل الدولة على نحو يخدم عموم المواطنين، ويحررها من الفساد، وهى إجراءات لابد منها للسير للأمام فى طريق الوصول لديمقراطية مستقرة، تكون السيادة فيها للشعب، وتكون العلاقات المدنية ــ العسكرية محكومة بسيادة المدنيين، وتكون جميع مؤسسات الدولة خاضعة للرقابة والمحاسبة، وتكون مع غيرها من مؤسسات المجتمع ملتزمة بالقانون.

 

وهذه الإجراءات المطلوبة لها تكلفة سياسية، لأنها تعبر عن مصالح وتواجهات مضادة لجل من يحيط بالرئيس، سواء من قيادات مؤسسات الدولة، أو بعض قيادات الحزب الذى ينتمى إليه، وهذه التكلفة ترتفع يوميا، لفتور الدفعة الشعبية التى يمكن للرئيس المنتخب أن يستند إليها (بسبب طبيعتها العفوية وعدم المنظمة، وبسبب سوء الأداء وضعف الإنجاز على المستوى السياسى)، ولازدياد تماسك المؤسسات الرافضة لها، ولتعاظم التحديات التى يواجهها الرئيس بما تضعه هذه المؤسسات أمامه من عقبات.

 

••• 

 

ويبدو أن الرئيس قد قرر ــ إلى الآن ــ أن يتجنب تقديم هذا الثمن السياسى للإصلاح المطلوب، أو أنه لم يقدر عليه، فتعامل مع المشكلات الحالة والتحديات المطروحة لا بمعالجة الأسباب الهيكلية لقيامها (وهى الوظيفة الأساسية للسلطة السياسية)، ولكن بتجاهل هذه الأسباب، وبإعادة تعريف التوافق الوطنى ليعنى التصالح مع الوضع القائم وعدم السعى لتغييره، والقبول ببقاء مؤسسات نظام مبارك، وبنظام (هجين) يجمع بين رموز النظام السابق وقيادات جديدة من غير أى تغيير فى بنية النظام، وهو ما بدا فى تشكيل الحكومة، التى خرقت قانون العزل (الذى أراد الإخوان تطبيقه وقت الانتخابات) فأوصلت أعضاء الحزب الوطنى للوزارة، وأوصلت بعض رموز نظام مبارك لقصر الرئاسة كمستشارين.

 

وهذا النظام السياسى الهجين يقوم على محاولة الجمع بين المتناقضات تجنبا لدفع الأثمان، فهو يحاول الجمع بين الثوار والفلول، وبين التيار غير الممانع لاستمرار اتفاقية السلام وما تشكله من انتهاك للسيادة الوطنية والتيار الحريص على استرداد السيادة والقرار الوطنى، وبين الراغبين فى إعادة هيكلة الاقتصاد بما يحقق قدرا أكبر من العدالة الاجتماعية والراغبين فى الحفاظ على الهيكل الاقتصادى الحالى حفاظا على مصالحهم، وبين الراغبين فى جعل السيادة للشعب والراغبين فى استبقائها بعيدا عنه فى مؤسسات غير منتخبة، وهذه القضايا وغيرها مما هو مطروح من قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية لابد للرئيس عند مناقشتها من الاختيار بين الموقفين المتناقضين، أو على الأقل الانحياز لأحد المواقف ضد غيرها، ومن ثم فإنه ــ حرصا على عدم الاختيار والانحيازــ يتجه بعيدا عنها إلى حيث لا تناقضات ولا اختيارات، فيؤسس فى خطاباته لـ(جمهورية الحب)، التى يتآلف أهلها فتعالج مشكلاتهم، بغير حاجة للنظر فى الهياكل المبتغى علاجها، ولا الانحيازات التى يتبناها.

 

•••

 

فحين يتحدث الرئيس عن علاج الظلم الاجتماعى يقول إن العدالة الاجتماعية تتحقق بالحب، وحينما يتحدث الدكتور محمد بديع ــ المرشد العام للإخوان ــ فى إفطار السعديين يقول إن النهضة تتحقق بالحب، وحين يتحدث عن أحداث دهشور يقول إن المتربصين يريدون التفرقة بين المسلم والمسيحى، وبين العامل ورب العمل، غير أن ذلك لن يحدث بسبب روابط الحب بين أبناء الشعب الواحد.

 

وهذا الخطاب يتجاهل فى حقيقة الأمر الأسباب الرئيسة للمشكلات، فالعدالة الاجتماعية غائبة لا بسبب غياب الحب، وإنما بسبب هيمنة أفكار وهياكل اقتصادية تمكن رجال الأعمال وتؤمن بانسحاب الدولة واعتبار السوق الآلية الأكفأ، والوحيدة التى يمكن الاعتماد عليها فى التوزيع وإدارة موارد وأدوات الإنتاج، والعنف الطائفى ليس سببه غياب الحب، بل ثمة أسباب اقتصادية واجتماعية تؤدى إليه وتجعله أكثر انتشارا فى الأماكن الأكثر إفقارا، وثمة أسباب تتعلق بالتنشئة التعليمية والدينية كذلك تساهم فيه، والنهضة لا تتحقق بالحب والشعارات، بل لابد لها من أطر قيمية وفكرية وسياسية ناظمة، ومن سياسات اقتصادية واجتماعية تعبر عن انحيازات واضحة، لم نر الحكام يتحدثون عنها.

 

إن التعامل مع الأبعاد التربوية والنفسية للمواطنين ليس وظيفة السلطة السياسية، والتى لا ينبغى أن يتركز خطابها على مثل هذه القضايا، وإنما هو وظيفة علماء التربية والتزكية والتصوف، والإخصائيين النفسيين، وأساتذة الاجتماع، أما السلطة السياسية فإن دورها أن تنفذ بكفاءة سياسات تعبر عن انحيازاتها على المستويات المختلفة، وأن تعالج الأسباب الهيكلية للمشكلات التى يعانيها المجتمع على جميع الأصعدة، وأما انشغال مسئولى الدولة وساستها بخطاب المشاعر والشعائر فإنه لا فائدة له، بل هو يتجاهل أسباب المشكلات فيؤدى لتفاقمها.

التعليقات