محاكاة الطبيعة كأساس لتعافى مصب النهر - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 10:16 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

محاكاة الطبيعة كأساس لتعافى مصب النهر

نشر فى : الإثنين 10 أكتوبر 2022 - 7:00 م | آخر تحديث : الإثنين 10 أكتوبر 2022 - 7:00 م
التدهور الكبير الذى يعانى منه مصب نهر النيل عند رشيد، والذى تعرفنا من خلال دراستنا على بعض من ملامحه النوعية والكمية، ما زال بحاجة للعديد من الدراسات التى تسد جزءا من فجوة البيانات كما نحتاج للمراقبة والرصد المستمر ليس فقط على المدى القصير ولكن أبعد من ذلك لتحديد حجم وكمية ما يحدث مما يساعد فى تفسير أسبابه كى نتعامل معه بصورة أفضل. وتشكل نافذة الوقت الضيقة والمتاحة ليس فقط للدراسة ولكن للدراسة والعمل أحد أكبر التحديات للإعداد لمواجهة قائمة على العلم.
فى دراستنا السابقة لميت رهينة تبنينا مفهوم «المنظومة الإيكولوجية الاجتماعية» كإطار للتعامل مع المكان وهو مفهوم قائم على اعتبار أن الناس هم جزء من، وليسوا منفصلين عن، الطبيعة. وقد أظهرت الدراسات والأبحاث الحديثة فى هذا المجال أن هذا الارتباط أساسى لبنية وعمل المنظومات الطبيعية، وأن التنوع الحيوى الثقافى ضرورى لمرونة هذه المنظومة. وهى منظومة متجانسة من العوامل الحيوية والاجتماعية والتى تتفاعل بانتظام فى مرونة وصورة مستدامة. والموارد الرئيسية لتلك المنظومة (طبيعية واقتصادية واجتماعية وثقافية) تدار أو تنظم من خلال تركيبة متداخلة. ومن النتائج المهمة لهذا المفهوم أن قضايا رئيسية، مثل المساواة ورفاهية الإنسان والتى فى العادة لا تلقى اهتماما كبيرا فى الدراسات الإيكولوجية، تصبح أيضا ذات أهمية كبرى. وهذا المفهوم يشدد على أهمية الارتباط بيننا البشر وبين الطبيعة وهو ما يقودنا الآن للتساؤل حول ما يعنيه ذلك.
فى قناعتى أن لا يبدو فى الأفق إلا حل واحد وهو أن نفعل ما بوسعنا لإنقاذ الطبيعة المتدهورة فى هذا المصب لكى نستطيع إنقاذ سكانه وأيضا بصورة ربما غير مباشرة إنقاذ أنفسنا أيضا. ولكى نستطيع أن نقوم بذلك فإن الطريق المختصر يمر عبر تبنى محاكاة ذكية للعمليات الطبيعية التى ساهمت عبر ملايين السنين فى تحقيق التوازن الهش الذى كان السبب وراء ازدهار الطبيعة واستمرارها رغم كل ما شهدته من تقلبات. هذا التوازن الهش الذى وفر استقرارا واضحا للمناخ على كوكب الأرض منذ نحو عشرة آلاف عام وهو الذى ساهم بصورة فعالة فى نشأة وتطور الحضارة البشرية التى نعرفها الآن. ببساطة هذا التوازن الطبيعى هو ما نعتمد عليه لاستمرار حياتنا وحياة الأجيال القادمة.
•••
أحد الدروس المهمة التى نتعلمها من الطبيعة المتجددة المذهلة هى أن خطتها للتعافى المستمر قائمة ببساطة على تشابك وترابط الأنشطة الثلاثة الرئيسية بها، وأولها الإنتاج وهو ما تقوم به النباتات أساسا، وثانيها الاستهلاك وهو ما تقوم به الكائنات مثل البشر والحيوانات المختلفة، وثالثها التحلل وهو ما تقوم به الكائنات الدقيقة فى التربة مثل البكتيريا والكائنات الأكبر قليلا مثل الديدان وغير ذلك من كائنات تعمل على تحليل بقايا الاستهلاك الطبيعية إلى مكوناتها الرئيسيةا بحيث يمكن أن تعود مرة أخرى لتدخل إلى دورة الإنتاج عن طريق النباتات أساسا. وترابط تلك الأنشطة معا لا يخلف أى هدر ويسمح باستمرار العمليات الطبيعية التى تدعم حياة كل الكائنات بما فيها حياة البشر.
وكما يخبرنا العلم فإن إحدى الوسائل المتاحة لذلك وهى أقل تكلفة وذات تقنيات بسيطة هى تلك التى تسمى الحلول المرتكزة على الطبيعة، فإن لها قدرة كبيرة ليس فقط فى وقف التدهور الطبيعى والتخفيف من تأثيرات التغيرات المناخية بنسبة كبيرة بالإضافة للمساهمة فى التحول إلى اقتصاد وحياة أفضل باستخدام الموارد الطبيعية المحلية أساسا. ولأن تلك الحلول يجب أن تبنى على فهم متعمق للطبيعة الأصلية فى الموائل المختلفة فى مصر فإننا أيضا بحاجة لدعم العلماء والباحثين فى المجالات الطبيعية المختلفة وتوفير وصولهم للبيانات المطلوبة والتى لا بديل عنها لتطوير حلول مفصلة لكل مكان جغرافى طبقا لنوعية الموائل الطبيعية به والكائنات التى تعيش فيه.
محاكاة الطبيعة بصورة فعالة يتيح التعامل مع المخلفات الهائلة المتراكمة من المنتجات التى أنتجها البشر منذ الثورة الصناعية وكمية الاستهلاك المستمر والمتزايد سنويا بنسبة ثلاثة فى المائة وهى تفوق حتى نسبة زيادة عدد السكان نحو واحد فى المائة. وهذا التراكم للمخلفات هو أحد الأسباب الرئيسية للتدهور الكبير الذى يشهده كوكب الأرض، مما يستلزم التعامل بجدية وكفاءة مع تلك المخلفات لو أردنا التحول إلى اقتصاد متجدد يستهلك أقل ما يمكن من المواد غير المتجددة ويعتمد بصورة أساسية على المواد المتجددة.
•••
محاكاة الطبيعة فى رؤيتنا لتعافى مصب النهر ليست تقليدا شكليا ولكنها استفادة واستعانة بالعمليات والكائنات الطبيعية. فكما أن هناك أنواعا مما يسمى المحللات والتى تتنوع بين كائنات دقيقة مثل البكتيريا وأخرى أكبر منها كالديدان وثالثة أكبر. وهناك أيضا أنواع من الفطريات وغيرها تعمل على تفكيك المخلفات الناشئة من عمليات الاستهلاك لمختلف الكائنات وتحولها إلى عناصرها الأصلية التى تمكن من إعادة الاستفادة منها وإدخالها فى دورة الإنتاج مرة أخرى، فيكون سعينا هو مدى إمكانية الاستعانة بأى من تلك الكائنات للتعامل مع المخلفات وخاصة السائلة والعضوية حتى يمكن أن نتحول باتجاه المستقبل الأكثر احتراما للطبيعة ولأنفسنا. مستقبل يكون فيه التعامل أكثر كفاءة مع الموارد المتاحة وخاصة الماء ويستهدف تصفير باقى المخلفات أى تكون صفرا مما سيقلل بشدة من الملوثات والأضرار الأخرى المؤثرة على البيئة الطبيعية المحلية، ويمكنها من البدء فى استعادة التعافى. كما تستهدف أيضا التعلم من العمليات الطبيعية فى الاستهلاك بالصورة التى تعمل على تقليل وتحسين نوعية الاستهلاك، فمثلا التأقلم مع الأجواء التى نعيش فيها خاصة عن طريق توفير العزل الحرارى لمنازلنا بالإضافة إلى توفير التهوية الطبيعة يمكن أن يوفر الكثير من الطاقة، كما أن استخدام وسائل التنقل الأقل استهلاكا للطاقة الصناعية والاعتماد بصورة أكبر على وسائل التنقل التى لا تحتاج سوى لطاقتنا البشرية مثل المشى والدراجات يمكن أن يكون له تأثير كبير أيضا فى هذا الاتجاه. وكما أوصت دراسة عالمية أخيرا فيمكن التحول فى أنماط غذائنا أن يسهم فى تحسين استخدام الموارد المائية العذبة المحدودة ويترك مساحات الغابات أو المناطق الطبيعية الأخرى التى يتم تحويلها إلى أراضٍ زراعية كما هى بما يسهم أيضا فى تحسين التعامل مع التغير المناخى. وإذا استطعنا تقليل استهلاكنا كثيرا وهو إحدى الوسائل الرئيسية التى يجب أن نتعلمها من الطبيعة يتبقى احتياجنا من الموارد المتجددة وخاصة فى مجال الطاقة وسيكون وقتها فى حده الأدنى وبالصورة التى نستطيع التعامل معها.

أستاذ العمارة بجامعة القاهرة

التعليقات