البحث عن أصحاب المعارك - أميمة كمال - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:15 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البحث عن أصحاب المعارك

نشر فى : الأحد 12 مايو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 12 مايو 2013 - 8:00 ص

عندما جاءتنى تلك السيدة بعد شهور قليلة من قيام ثورة يناير. وهى تحمل أوراقها ومستنداتها لتستحلفنى بأن أساعدها لوقف تنفيذ قرار جائر، كان أحمد نظيف رئيس الوزراء فى الحكم المباركى قد اتخذه. وهو التنازل عن قطعه أرض على النيل، من أراضى شركة القطاع العام التى تعمل فيها، وذلك لصالح بنكى مصر والأهلى بدون وجه حق. عندما جاءتى تلك السيدة واسمها سمية جاد منذ عامين، كنت أعتقد أن مهمتها، وبالتالى مهمتى ليست بالمهمة الصعبة.

 

مهمة سهلة بالطبع. هكذا اعتقدت، فما الصعوبة فى أن تتخذ حكومة ما بعد الثورة، موقفا حازما لوقف تنفيذ قرار جائر أصدره أحمد نظيف رئيس الوزراء، فى ظل عهد حكم عليه الشعب بالفساد، وأسقطه.

 

السيدة والتى تعدت الأربعين من عمرها، ومع ذلك كانت تحمل حماسة فتيات العشرينيات كانت قد استبقت لقاءها معى بتقديم بلاغ للنائب العام ضد انتزاع قطعة أرض من شركتها الواقعة على نيل إمبابة لبنكين، ليس لهما أى دائنية على شركتها. كانت تتحدث وكأن قطعة الأرض هى قطعة من نفسها، فكانت تدافع عنها بقدر ما يخشى الإنسان على ذاته. وقتها تصورت أن القضية لا تعدو أن تكون سيدة مخلصة تحب عملها وتخلص له، وتخشى على مصير شركتها من الانهيار. خاصة أن الأرض التى سيتم تسليمها للبنكين ليست أرضا شاغرة ولكن عليها مبانى ومخازن وورش وعنابر وكان هذا البيع سيعطل تنفيذ عقود عمل مع بعض الجهات الخارجية.

 

ولكن بعد أن بدأت السيدة تأتى بما عندها، عرفت أن تسليم قطعة الأرض المطلة على النيل التابعة لشركتها ما هى إلا قطعة واحدة، من ضمن مليون متر أخرى، يجرى تسليمها للبنكين مقابل مديونية على شركات القطاع العام بأكمله. بمعنى أن على شركات القطاع العام المدينة، وغير المدينة للبنكين أن يتنازلوا عن جانب من أراضيهم لتسديد مديونية قطاع الأعمال العام. أى أنه بقرار من أحمد نظيف جاء فى صفحة واحدة تغيرت أحوال ما يزيد على ثلاثين شركة من شركات القطاع العام. التى أجبرت على التنازل عن أراضٍ كان يمكن لو باعتها بالمزاد، أن تحقق أرباحا طائلة، تستطيع بها أن تسدد مديونياتها، وبعدها تصلح من الخلل فى هياكلها.

 

يومها تحمست لقضيتها. وخجلت من ضيق أفقى عندما تصورت أن هذه السيدة تريد فقط المحافظة على أكل عيشها. وأيقنت بالفعل أنها موجوعة من الظلم الذى أوقعه نظام فاسد على الآلاف من العاملين بالقطاع العام. وكتبت فى نفس المكان موضوعا عن تلك السيدة، وما تعرضت له من تنكيل من جانب قيادات شركتها، بسبب تصديها لتلك القضية العادلة.

 

وعرضت وقتها ذلك القرار اللعين الذى يحمل رقم 3149 لعام 2009 والذى نص بالتحديد على قطع الأرض التى سيتم تسليمها للبنكين. دون أن يعطى القرار الحق للشركات فى بيع أراضيها، وأصولها بالمزاد العلنى طبقا لقانون المزايدات والمناقصات. وهو القانون الذى ينظم التصرف فى اراضى الدولة. ورحت وأنا أكتب مساحات الأراضى ومواقعها، على امتداد رمل الإسكندرية ونيل أسوان ووسط طنطا وعلى كورنيش حلوان وفى افضل مناطق المحلة والبحيرة أتصور حجم الحكايات والقصص والمآسى التى لحقت بعمال تلك الشركات الذين لا ذنب لهم فى المديونية. ومع ذلك عليهم أن يسددوها من أصول مصانعهم وبيع أراضيها، ومبانيها وعنابرها ومخازنها. بينما الفاعل الأصلى الذى تسبب فى تلك المديونية من وزراء وقيادات القطاع العام ورؤساء للشركات الذين جلسوا على كراسى حكم هذه الكيانات أكثر من ربع قرن خرجوا سالمين كالشعرة من عجين مبارك الفاسد.

 

●●●

 

نشرت وقتها حكاية السيدة التى حاولت منفردة الدفاع عن حق عمال كل شركات قطاع الأعمال العام التى وقع عليها الاختيار للتنازل عن جانب من أراضيها. وكنت على يقين أن حكومات بعد الثورة ستقف ضد تلك المهزلة. وستوقف كل عمليات تسليم الأراضى وتلغى قرار نظيف. واعتقدت أنها ستبدأ على الفور فى محاسبة المسئولين عن الأوضاع المتدهورة للقطاع العام.

 

بل وصل بى التفاؤل بعد أن نشرت موضوع تلك المهندسة المتحمسة لحد أنى تصورت أن حكومة ما بعد الثورة سوف تلتفت إلى أهمية الإسراع بتعديل قانون قطاع الأعمال العام الحالى. والذى يسمح بوجود رموز من رجال الأعمال فى تشكيل مجالس إدارات الشركات القابضة. التى تضع السياسات العامة لشركات قطاع الأعمال التابعة وتراقب أعمالها. تصورت أن حكومات ما بعد الثورة ستدرس ما حدث للقطاع العام، بعدما سمح القانون لرجال الأعمال الدخول إلى عقر دار ذلك القطاع، والجلوس على مقاعد مجالس إدارته، بينما هم يتنافسون معه فى السوق. وكيف أنهم ساهموا فى الإسراع بخصخصة العشرات من أفضل الشركات لصالح نظرائهم من رجال الأعمال. وفى بعض الأحيان لأبنائهم.

 

تصورت واعتقدت وانتظرت أن يحدث شيئا على الأرض بعد الثورة فكان تصورى محض خيال واعتقادى مجرد تمنيات وانتظارى مضيعة للوقت. فلم تأت الثورة بجديد يبشر بمستقبل أفضل لشركات قطاع الأعمال. وبقى كل شىء على حاله. وقتها تواريت تماما عن تلك السيدة لأنى خشيت أن أحبطها، وأصارحها بالحقيقة بأننى لا أنا ولا هى نستطيع أن نغير واقعا على الأرض. ولكن من يستطيع هم أصحاب القضية مجتمعون.

 

●●●

 

من يوم لقائى بتلك السيدة وأنا أمنع نفسى من أن أتابعها أو أسالها ماذا فعلت بها الحماسة خوفا من أحمل نفسى ما لا أطيق من الإحباط لو صارحتنى بأن أرض شركتها قد تم تسليمها بالفعل للبنكين. أو أن تقول لى إنه تم إجبارها على التوقيع على شهادة بأنها كانت مخطئة عندما تقدمت ببلاغ للنائب العام ضد تسليم الأرض.

 

ولكن الذى جعلنى الآن أقرر أن أبحث عن تلك السيدة مرة أخرى، لأعرف منها ماذا كانت نتيجة ما فعلته هو أننى قرأت مثالا جديدا من أسيوط. حيث يقول عمال مصنع الغزل والنسيج هناك بأنهم فوجئوا بأن جانبا من أرض مصنعهم فى قلب المدينة أسيوط اصبح ملكا لبنكى مصر والأهلى فى مقابل التنازل عن ديون الشركة القابضة للبنكين. وفى نفس اليوم قرأت إعلانا لأحد البنكين عن بيع قطعة أرض من الأراضى التى جاءت فى قائمة نظيف والتى تسلمها البنك من إحدى الشركات، وهو ما سيحقق من ورائها ملايين الجنيهات من جهد عمال هذه الشركة. وليس من جهد مسئولى البنك الذين ستزيد أرباحهم آخر العام..

 

والحقيقة ليس هذا فقط ما جعلنى أتذكر تلك السيدة. ولكنى تذكرتها بسبب ما قاله أحد عمال مصنع أسيوط وهو يحكى عن ذكرياته مع مصنعه. فقال إنه كان قد أتى وهو مازال تلميذا قبل ربع قرن إلى نفس هذا المصنع فى رحلة مدرسية. وكان يستمع منصتا إلى المهندسين عن عمليات الإنتاج، وكان مستمتعا برائحة المكن. ويتذكر يوم أن عاد من رحلته هو وزملائه من أبناء أسيوط وكانوا يتبادلون الحلم بأن يصبح كل منهم ذات يوما مهندسا فى هذا المصنع.

 

وهنا قررت أن أبحث عن المهندسة المتحمسة، ولن أخشى على نفسى من الإحباط. فمادام هناك أطفال فى أسيوط أو سوهاج أو المحلة أو شبرا الخيمة، أو حلوان لايزالون يحلمون بموضع قدم أمام ماكنية فى مصنع يستعذبون رائحتها ويتوقون للعمل أمامها فلابد ألا نستسلم. حقا اليأس خيانة.

أميمة كمال كاتبة صحفية
التعليقات