الدين والحداثة - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 5:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدين والحداثة

نشر فى : الجمعة 12 أغسطس 2016 - 9:20 م | آخر تحديث : الجمعة 12 أغسطس 2016 - 9:20 م
منذ فترة طويلة قدمت لى صديقة رئيس قسم فى احدى الجامعات المصرية مجموعة من الكتب من تأليف فتح الله كولن، لفت نظرى عنوان «ألوان وظلال فى مرايا الوجدان»، تعريب أديب إبراهيم الدباغ وفى المقدمة يقول إن فتح الله كولن يسعى فى كتاباته كلها إلى بعث «لغة الروح» من جديد وعندما تصفحت الكتاب وجدت ــ فعلا ــ عمقا روحيا ووجدانيا. فجوهر الروح الدفين هو الإيمان بالبقاء والإيمان بأن الذات الإنسانية عالم عظيم وكون عظيم، وهو منبع خوالجنا وأحزاننا وأفراحنا من هذا الفكر.

انبثقت إبداعات كولن بشمولية النظر وعمق الفهم والإدراك، لكن لم يقف فكر كولن عند لغة الروح فقط لكنه ترجم هذه اللغة إلى حركة على الأرض وقدم فلسفة حديثة أثرت بعمق فى مسار الحركات الإسلامية. لقد قدم اجتهادات فى علاقة الدولة بالمجتمع والدين بالسلطة على وجه الخصوص. وقد أردت أن أعرض هنا أفكار تلك الحركة لأننا نتحدث كثيرا عن الثورة الدينية وتجديد الخطاب الدينى وهذه تجربة يجب أن نتوقف عندها إذا كنا جادين فعلا فى تجديد خطابنا وتنوير أفكارنا الدينية. وسوف أركز على ما يتعلق بمفاهيم كولن فى سياسات الهوية الإسلامية وعلاقتها بالحداثة والديمقراطية وعلاقة الدين بالأخلاق.

لقد قدم كولن تأويلا للتراث الإسلامى يصلح أرضية خصبة لفهم وإدراك أفكار الحداثة، وإن كان بديع الزمان سعيد النورسى (1876 ــ 1960) مؤسس الاستنارة الدينية فى تركيا فإن كولن تبنى أفكاره النظرية وقدم تصورا لتطبيقها وقام بتحقيقها على أرض الواقع. ولقد استخدم تعبيرات لفتت نظرى بشكل مذهل مثل «نموذج واقعى عملى لإسلام معلمن أو الحداثة المؤمنة» من بناء الإنسان إلى بنية الحركة، «ومن الإسلام فى فضائه الخاص إلى الإسلام فى الفضاء العام»، ومن جدلية «الدين والعلم» إلى «فقه الحوار»، ومن «صدام الرؤوس السياسية» إلى «عقلنة وعلمنة الإسلام السياسى». مسار يتشكل فى التاريخ والواقع يعمل بصمت وهدوء ودأب، ويهدف إلى نموذج إسلامى يصلح لعصر الحداثة وما بعد الحداثة. هذا النموذج الذى يركز على العقل والتسامح والحوار والنهضة والتقدم والعلم والحرية والمدنية والديمقراطية ــ أصبحت فى الحالة التركية بوجه خاص ــ جزءا من الخطاب الإسلامى، وقد ساعد ذلك على انضمام معظم الحركات الإسلامية التركية على الاندماج فى الحركة الدعوية والسياسة الدنيوية.

***

وهنا يبرز سؤال مهم جدا: لماذا صار «التنوير الإسلامى» حركة تحرر مجتمعية قوية كحركة لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية أو مثل الإصلاح البروتستانتى فى أوروبا فيما يتعلق بمفهوم «السلطة الدينية» وعقلنة الممارسات الدينية (الإسلامية) وهذا لم يحدث فى المجتمعات العربية والإسلامية ذات الأغلبية المسلمة. وأرى أن السبب وراء ذلك أن هذه المجتمعات لم تختبر أو تعيش أو تمارس أى نوعية من الثورة الدينية الإصلاحية فى تاريخها مثل ما حدث فى أوروبا أو تركيا لذلك لا يوجد تصور لها فى عقول أبنائها. أما كيف تطورت حركة كولن من مجموعة صغيرة تمارس التعليم الدينى المحدود إلى أكبر الحركات التعليمية الدينية المدنية المتجاوزة لحدود القوميات فى التاريخ التركي؛ فذلك لأن كولن قام بتقديم حركة للعالم بعناوين محايدة مقبولة من جميع الاتجاهات مثل «رابطة الخدمة» أو «حركة المتطوعين» أو «الأرواح المتداولة للإنسانية». هذا فى مقابل الحركات الإسلامية الدعوية والحركات الكرازية المسيحية.

فالحركة الإسلامية الدعوية تقدم ذاتها على أنها تعود بالإنسانية إلى العصر الذهبى لزمن النبى أو زمن الخلافة للبحث عن المثل العليا، والحركة الكرازية المسيحية تدعو للعودة إلى عصر المسيح والكنيسة الأولى لنفس السبب. أما حركة كولن فهى تستلهم روح عصر النبوة أو الكنيسة الأولى وتقدم هذه الروح بشكل عصرى مقبول لشباب يهرب من الدين التقليدى إلى الإلحاد بسبب مصطلحات مصكوكة من مئات أو آلاف السنين غير مفهومة فى مجملها. لذلك حدث انتشار واسع لحركة كولن لأنها تحاول خلق توافق بين الحداثة الغربية ممثلة فى مبادئها الأساسية: العقلانية والديمقراطية والعلمانية واقتصاد السوق والإسلام فى الجمهورية التركية. وهنا لابد وأن نشير أن كولن كما أنه يستلهم روح العصور الأولى للإسلام دون تحريفها هو أيضا لا يدعو إلى تبنى كل مفاهيم الحداثة، إنما هو يهدف من خلال دعوته إلى «استعادة الحضور الإلهى» إلى الحياة اليومية. فالحداثة برأيه لا تتعارض مع الأخلاق والقيم الدينية، لكنها تشترط وجود تبريرات عقلية لها لا تناقض الإيمان المقدس؛ إذ إن كولن لا يتصور نظاما أخلاقيا دون إيمان بالله، من هنا تعلى حركة كولن قيمة العمل الجماعى البناء والمشاركة فى أنشطة الحياة الدنيوية المختلفة؛ مستعينا بمفهوم «الهمة» الصوفى الذى يتضمن بذل الذات لأجل حركة دينية حداثية تقدم تحديثا للفكر الدينى مقبولا من أبناء هذا العصر بكل تقنياته ومقوماته.

***

فى مجموعة الكتب المهداة لى وجدت نصوصا قرآنية تتبعها تعليقات من النورس وكولن أو تفسير يستطيع عامة الناس قراءته وفهمه ويقوم القارئ بصياغة فهمه الدينى بدون معين، فهو المفسر لذاته وهذا لب حركة الإصلاح البروتستانتى. ولا شك أن هذا التوجه ينال من السلطة الدينية الرسمية أو بمعنى آخر تعريف جديد للسلطة الدينية خاصة فى شأن امتلاك الأفراد لأفكارهم. وهكذا نرى وبوضوح عقلنة الممارسات الدينية فى سياق سيادة العقل والتفكير العلمى.

وبهذا العرض نستطيع أن ندرك لماذا وقف أردوغان ضد كولن واعتبره متآمرا على الدولة، ولو تأملنا سنجد نفس التوجه فى معظم الدول العربية والإسلامية ككل، لأن كولن اكتشف أن سلطة الدولة ومؤسساتها ليست هى الحل إنما هى جزء من المشكلة. فبمحاولة الدول منع تماسك المجتمع المدنى أو انفراط عقده بتحديد الديمقراطية أو تحييدها أو مسرحيتها (أى تكون شكلا بلا مضمون) تجعل الدين بمؤسساته فى خدمة السلطان والعكس صحيح، وبانتقال كولن لأمريكا رأى المجتمع المدنى كوسيلة وحيدة قادرة على إدراك الحياة الكريمة. فالنص الإلهى يتحدث عن الإنسان الفرد وكرامته وأن تكون الدولة فى خدمة الإنسان ولا يتم ذلك إلا بالمجتمع المدنى الحر الديمقراطى.

وهكذا تقدمت «الحرية» عنده على «النظام» ويقطع أنه لا يوجد تعارض بين الدين والديمقراطية، ويؤمن أن مصادر الفقه فى الإسلام مثل الاجتهاد والإجماع والشورى تتوافق بشدة مع النظام الديمقراطى، ولكى يتحقق ذلك لابد من وجود مجموعات عمل ومؤسسات منظمة تطوعية يمكن من خلالها إرساء دعائم ديمقراطية فاعلة ومجتمع حر حديث.

***

يقول كولن: أريد حفنة من المجانين، يثورون على كل المعايير المألوفة، ويتجاوزون كل المقاييس المعروفة، بينما يتهافت عوام الناس على المغريات، يفر أولئك منها من دون التفات!

أريد حفنة ممن نسبوا إلى خفة العقل لشدة حرصهم على دينهم وتعلقهم بنشر إيمانهم، فلا يفكرون بملذات أنفسهم، ولا يتطلعون إلى قرب سلطانى ولا يرنون إلى حياة متعة الحياة الدنيا وزينتها.

يا رب إنى أتضرع إليك فخزائن رحمتك بلا نهاية أو حد، أعط كل سائل مسألته، أما أنا.. فأعطنى حفنة من المجانين!
إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات