السياسة المصرية فى مرآة إنفلونزا الخنازير - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 3:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السياسة المصرية فى مرآة إنفلونزا الخنازير

نشر فى : الأربعاء 13 مايو 2009 - 6:22 م | آخر تحديث : الأربعاء 13 مايو 2009 - 6:22 م

 تكشف السياسة المصرية عبر الأزمات التى تواجهها من حين لآخر عن نمطية لافتة فى مواجهة تلك الأزمات، وهو ما يكشف بدوره بوضوح بين عن «نموذج» هذه السياسة وديناميكياتها. ولم تشذ مواجهة السياسة المصرية للأزمة الراهنة المتعلقة بمخاطر انتقال إنفلونزا الخنازير إلى مصر عن هذه القاعدة، فقد وفرت الأزمة رؤية بانورامية شاملة للسياسة المصرية فى تعاملها مع الأزمات، ويمكن فى هذا السياق أن يثار على الأقل عدد من الملاحظات سوف نتناول منها ما يتعلق بعملية صنع القرار وتنفيذه، وإدارة الصراع داخل المجتمع.

وأول ما يتبادر إلى الذهن بشأن عملية صنع القرار أن القرار الرئيسى الذى اتخذ لمواجهة مخاطر تفشى إنفلونزا الخنازير فى مصر ــ وهو قرار ذبح الخنازير ــ قد اتخذ فى سياق «أزمة»، ومن المعروف أن قرارات الأزمة تتم تحت إلحاح عامل ضيق الوقت، بمعنى أن صانع القرار يتعين عليه أن يتوخى السرعة فى اتخاذ قراراته وإلا حلت الكارثة، ولهذا فإنه من المفيد دائما أن تكون هناك «سياسة» توجه مثل هذه القرارات، بمعنى مجموعة من الخطط والتفصيلات يسهل اتخاذ القرار فى إطارها، وإذا غابت هذه السياسة فإن ذلك ينعكس على القرارات المتخذة فتبدو متخبطة ومرتبكة.

وتشير الخبرة المتاحة عن عملية صنع القرار فى مصر إلى أن السياسات كثيرا ما تكون موجودة، وموصية باتخاذ قرارات بعينها لمواجهة مشكلة ما، سواء كانت حالية أو ستحدث فى المستقبل القريب، لكن القرارات لا تتخذ إلا عندما تنشب الأزمة أو تقع الكارثة، وربما يحدث هذا لأن أصحاب المصالح المضارة من قرارات ما يعطلون صدور هذه القرارات، وقد تكون البيروقراطية هى السبب إذ تخلق تعقيدات عديدة فى وجه تنفيذ القرارات، أو يكون عدم الاعتقاد الفعلى من جانب النخبة المسئولة عن صنع القرار بأن ثمة خطرا وشيكا ينبغى التحسب له باتخاذ قرار أو آخر، وقد تمثل أعباء مواجهة الحاضر حاجزا يحول دون الاهتمام بالمستقبل ولو القريب، وقد تلعب ضغوط خارجية دورا فى هذا الصدد.

يصدق هذا التحليل إلى حد كبير على الأزمة الراهنة فى مصر فيما يتعلق بخطر انتشار إنفلونزا الخنازير، فقد علمنا من ملابسات مواجهة الدولة لهذا الخطر أن وضع مزارع تربية الخنازير وما يترتب عليه من مخاطر صحية وبيئية كان يؤرق المسئولين منذ مدة، وأن خططا قد وضعت لنقل هذه المزارع خارج مناطق العمران البشرى، لكن شيئا من هذا لم يطبق، ولذلك بدأ التفكير فور الإعلان عن خطر إنفلونزا الخنازير فى القرارات التى يجب اتخاذها دون أدنى استفادة من السياسات الموضوعة بالفعل، فأنت لا تستطيع أن توفر بنية أساسية جديدة لتربية الخنازير فى أيام أو أسابيع، ولذلك خرجت التوصية بإعدام الخنازير من مجلس الشعب، وعدلت رئاسيا ــ فى إشارة لافتة إلى الأوزان الحقيقية فى عملية صنع القرار فى مصر ــ إلى قرار بذبح الخنازير السليمة وحفظ لحومها، وإعدام الخنازير المصابة، وهو قرار خضع لجدل ونقاش واسعين بين من يرون ضرورته ومن يعتقدون عدم جدواه. وعلى أى حال فقد كان واضحا أن المسئولين، لأنهم يتصرفون فى مناخ أزمة، لم يكونوا يملكون رفاهية المخاطرة بترك الخنازير حيث هى فى أماكن تربيتها بكل ما يحيط بها من مثالب صحية وبيئية، طالما أنهم لم يأخذوا بأسباب الحل الأفضل وهو إقامة بنية أساسية جديدة لتربية الخنازير فى مصر.

لكن الخطير ولعله لا يخلو أيضا من شىء من الطرافة، أن قرار ذبح الخنازير الذى أثار كل هذا الجدل لم ينفذ كما ينبغى، أو لم ينفذ على النحو الذى يحقق الغاية منه، فمن الواضح أولا أن عملية الذبح أو الإعدام تتم دون توفير المتطلبات الصحية كاملة. تطالعنا الصور فى كل يوم بكتائب ذبح الخنازير وإعدامها وبعض أعضائها دون الآخرين يرتدون الكمامات الواقية، كما أن أطفالا أبرياء ظهروا فى تلك الصور غير مرة وهم يحملون الخنازير دون أن يرتدوا أى كمامات على الإطلاق. من ناحية ثانية سرعان ما اتضح أن طاقة الذبح والتخزين تقف حجر عثرة أمام التقدم بمعدلات سريعة فى التخلص من الخنازير، ولذلك فإن القرار يبتعد شيئا فشيئا عن تحقيق الغاية منه، فلو كانت الخنازير حقا مصدر عدوى فإنها لا تزال تعيش بيننا، وستبقى هكذا بعض الوقت، ولو شاءت إرادة الله أن تنتقل إنفلونزا الخنازير إلينا فمن الواضح أن الخنازير المصرية سوف تكون فى استقبالها، وسوف تلعب دورها فى انتشارها ــ إن كان لها دور ــ طالما أننا لا نستطيع ذبحها إلا بمعدلات بطيئة. وأخيرا وليس آخر فإن القدرات الإدارية المحدودة للدولة تجعلها غير قادرة فيما يبدو على السيطرة على عمليات تهريب الخنازير عبر المحافظات المصرية، وهكذا ينتشر الخطر بدلا من أن يحصر فى مكان بعينه.

وبعد عملية صنع القرار وتنفيذه ودلالاتها المختلفة يأتى «تديين الأزمة» بمعنى النظر إليها من زاوية دينية، ويتسق هذا مع الاتجاه إلى «تديين» الظواهر السياسية فى مصر بصفة عامة فى هذه المرحلة من مراحل تطورها السياسى، فكل الأمور باتت فى حاجة إلى «فتاوى دينية» من السلام مع إسرائيل إلى المشاركة فى الانتخابات إلى الهجرة غير المشروعة سعيا وراء الرزق، إلى غير ذلك. ولأن لحم الخنزير محرم أكله فى الإسلام فقد وجد هواة التديين ضالتهم فى الأزمة الراهنة، إذ سرعان ما رأوا فيها مادة للإشادة بالإسلام والغمز واللمز من قناة إخوة لنا يؤمنون بديانة سماوية سمحاء، مع أن عظمة الإسلام لا تحتاج موقفه من تحريم أكل لحم الخنزير شاهدا عليها، ومع أن البقر والطيور سبقوا الخنازير فى احتضان فيروسات قاتلة، وقد تكفل الموقف الحكيم للبابا شنودة بإجهاض هذا الطرح من المنظور الدينى، لكن المنظور الاجتماعى الاقتصادى، وهو جوهر الأمر، بقى، وهو ما لا حيلة لنا فيه، فذبح الخنازير أو إعدامها يصيب جميع العاملين فى تربيتها بضرر بالغ، وبالتالى فإن الذين خرجوا يواجهون كتائب ذبح الخنازير بأعمال شغب لم يكونوا «أقباطا» غاضبين يواجهون «مسلمين» ظالمين، وإنما هم مواطنون مصريون ــ من المؤكد أن بينهم مسلمين ــ خرجوا يدافعون عن لقمة عيشهم فى غياب بدائل تؤمن لهم حاضرهم ومستقبلهم.

ولأن العمل السياسى فى بلادنا ما زال عاجزا، فقد كانت الشرطة هى الملاذ الأخير فى إدارة الصراع كما هو الحال فى كل الأزمات المماثلة، وعلى الرغم من أن إخضاع تصرفات الشرطة فى هذا الصدد للتقييم الدقيق يبقى ضروريا فإن ذلك يتصل بالعَرَضِ وليس بالمرض، أى عجز العمل السياسى، الذى ينبغى أن تكون الأولوية لاهتمامنا بتشخيصه وعلاجه. وتكتمل صورة العجز السياسى بضعف الرقابة الإعلامية ــ وبالذات من قبل الصحافة المستقلة والمعارضة ــ على أداء الحكومات المصرية المتعاقبة، فقد ارتفعت أصوات مشكورة فى الأزمة الأخيرة تنعى على الحكومة تقصيرها المروع فى حل مشكلة مزارع الخنازير قبل ظهور الخطر، ونسينا جميعا أن التركيز على هذه المشكلة كان غائبا بدوره عن الموضوعات التى ناقشتها الصحافة المستقلة والمعارضة، ومحطات التليفزيون الخاصة، وقد نلتمس العذر للصحافة بسبب الكم الهائل من المشاكل التى يتعين عليها الاهتمام بها ما يفسر التركيز على إحداها على حساب الاهتمام بغيرها، لكن الأوان قد آن لوضع قائمة أولويات ينبغى أن يكون الإلحاح عليها دائما وقويا حتى يمكن للرقابة الإعلامية المطلوبة أن تحدث أثرها.

تبدو أزمة إنفلونزا الخنازير إذن تكرارا نموذجيا لديناميكيات السياسة المصرية فى الأزمات المشابهة، وقد يكون هذا مصدرا لمتعة تحليلية للدارسين والباحثين ومساعدا لهم على التنبؤ بمجريات السياسة المصرية واستشراف مستقبلها فى المدى المنظور، ولكن من شأنه أن يسبب رعبا حقيقيا للقلقين على حاضر مصر ومستقبلها والخائفين من مآل هذا الوباء لو انتقل المرض لا قدر الله، طالما أن الأمور تتكرر على هذا النحو من الرتابة النمطية وضعف الفاعلية.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية