‎اختِـيَار - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 8:25 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

‎اختِـيَار

نشر فى : الجمعة 13 سبتمبر 2019 - 10:20 م | آخر تحديث : الجمعة 13 سبتمبر 2019 - 10:20 م

‎في امتحانات الكُليّات العملية سؤالٌ شهير تحت عنوان "اخْتَر مِن مُتَعَدّد"، وعلى الطَالبِ أن يُقرّر في سرعة الجوابَ الصحيح؛ حيث لا مَجال للَتٍّ وعَجْن، ولا مساحة لاستعراضِ ما حَفظ واختزَن، بل حَسمٌ وحَزمٌ وقرار لا رجعَة فيه.
***
‎التردُّد سِمةٌ تلازِمُ نفرًا مِن الناس ولا تتبدَّل بمرور الوقت؛ ثمَّة مَن يُحجِم عن الاختيار ويجتهد للهَرَب مِن المَوْقِف، ومَن يدرك مُنذ البداية مُبتغاه ويعرف مَقصدَه، ويضع يدَه سريعًا على ما يريد؛ لا يتريَّث ولا يحتاج وقتًا للتفكير. تظهر هذه السماتُ في مَراحل مُبكرة مِن العُمْر؛ فطفلٌ يَقتنصُ لعبتَه فورًا، وآخر يتنقلُ حائرًا دون أن يختار. على كُلّ؛ تتعاظم الحيرةُ في وجودِ مُعطياتٍ كثيرة، وتُربِك الوَفرةُ مَن يتخذ القرار؛ الاختيار سهلٌ على مَن لا يَملِك، وعَصيٌّ على مَن وُهِبَ الثراء.
***
‎تذكر مَعاجِمُ اللغة العربية أن الاختيار هو الانتقاءُ والاصطِفاء، وخَارَ الشيءَ وتَخَيَّره واختارَه أيّ انتقاه، واخْتَرْتُ فلانًا على فلانٍ بمعنى فضَّلته، وقد خَيَّرْتُه بين الشيئين؛ أي فَوَّضْتُ إِليه الأمرَ في تَرك أحدهِما وأخذ الآخر. يُوصَف الأفضلون بأنهم "خِيَار" الناس، وكذلك يُقال خِيرَة الإِبلِ والغَنم.
***
‎الاختيار؛ روايةُ نجيب محفوظ التي حوَّلها يوسف شاهين إلى فيلم سينمائيّ بطولة سعاد حسني وعزت العلايلي، ومِن إنتاج السبعينيات. بعضُ مَن شاهدوا الفيلم وجدوا صعوبةً في الفهم وعسرًا في المتابعة، ربما لكون عمليةِ الاختيار في حدّ ذاتِها صَعبة مُعقَّدة، أو لأن القصةَ تدور في قالبِ الاضطرابِ النفسيِّ، وتطرح مِن خلالِه أسئلةً مُتعدّدة حَول الهُويّة والكَينونة، وتعكس مُعاناةً أصيلةً ترتبط بمُعضِلة الوجود، وبرؤية الشخصِ لذاته ورؤى الآخرين.
***
‎لا يكفي بعض الأحيان أن يكون المَرءُ حرًا في اختياره، فقد يكون هذا الاختيار رغم انعتاقه مِن شروط القسر؛ مَبنيًا على معلومات زائفة، أو رؤية ناقصة، أو بيانات مُضلّلة تعوزها الدقَّةُ والشفافية، ليصبح في نهاية الأمر فاسدًا. الاختيار المُثمِر هو بالأحرى ذاك القائمُ على الاستبصار والمَعرفة، ولا شكَّ أن مِن الناس مَن يُكَوّنون قناعاتَهم ومُعتقداتَهم في الحياة بوجه عام غير مُستبصرين، وحين يتعلق الأمرُ بألعاب السياسة وفخاخها؛ يصبح الخطر قائمًا، فاختيارٌ على أساسٍ واهٍ يُسفِر عن إخفاقٍ تلو إخفاق، وحين يدرك الناسُ الحقائقَ، تكون الخديعةُ قد اكتملت أركانُها واستتبَّت.
***
‎يدفع الفردُ ثمَنَ اختياره سَلبًا أو إيجابًا، فيما لا يتحمَّل نتائج اختيارات غيره، أما بالنسبة للجُمُوع فإنها تؤدي ثمَنَ اختياراتها في المَرتبة الأولى، وثمَنَ اختيارات قادتِها في المَرتبة الثانية، ثم ثمَنَ عزوفها عن تصحيحِ ما اختارت في المَرتبة الثالثة؛ لتغدو نكبتها مُتضاعفة.
***
‎منذ عقود خَلَت، بدأت فريال صالح تقديم برنامج "اخترنا لك"، الذي تحول إلى مَعلَمٍ رئيسٍ مِن مَعالم التلفزيون، ورغم ما حمل عنوانُه مِن حَجرٍ على ذائقة المشاهد واختياره؛ فالقصدُ لاحَ بريئًا والنيةُ خالصة والمحتوى مُستطَاب. مساحة الوِدّ الماضية لا تقارن بأيامِنا
***
‎يحفل طبقُ المُختارات الشرقيَّة في المَطاعم بما لذَّ وطابَ، أنواع مُتجاوِرةٌ مِن المَأكولات التي انفَرَدَ بها مَطبخُ الشرق مُنذ قديم، وميَّزها بأصناف مِن التوَابل والبهَارات. ليست المُختارات الشرقية بالضرورة طعامًا؛ فهناك الموسيقى الشرقيَّة والرقصات الشرقيَّة، وهذه وتلك تتمتع بالخصوصيةٍ والانفراد. على كلّ حال؛ كسرت العولمةُ دائرةَ الخاص فنقلته إلى العام، ووزعته على أرجاءِ المَعمورةِ، وصار مَألوفًا أن يبتاعَ الناسُ المَحشي والكُشري في قلب أوروبا، وأن تدخل الراقصاتُ مِن شرق أسيا وروسيا حَلَبةَ المُنافسة مع المِصريَّات.
***
‎في مَكتَبتي نُسخةٌ مُهترئةٌ مِن مُختار الصحَّاح، عليها نقش الطبعة السادسة لعام ألف وتسعمائة وخمسين. ورثتها عن جَدِّي وقد أكل الزَمنُ حوافَّ أوراقِها وترك اصفرارَه فيها؛ لكني لا أنفكُّ أعود إليها طمعًا في معرفة ما تم حذفه مِن المَعاجِم الحديثة، وحنينًا للأوراق ذات الرائحة الخاصة، وشوقًا إلى مَلمَسٍ فريد لا يسلاه مَن تعلَّق به في سنين الطفولة.
***
‎أحيانًا ما ينفي معنى العبارةِ مَلفوظَها؛ فيقول قائلٌ إن أمامَه اختيارًا وحيدًا، بينما صفةُ الوحيد تنكر أنه اختيار. يسمح المَجازُ بالتجاوزات، فقد تتعطَّل حواسُّ المرءِ ونوازعُه عند الشَبع، وتحجِبُ عنه ما تعدد من اختيارات وتزيح مِن أمامه المُغريات، وفي هذا يقولُ عنترة بن شداد لامرأةٍ عَرَضَت عليه الزواجَ بابنتها: لَو كانَ قَلبي مَعي ما اختَرتُ غَيرُكُمُ ... وَلا رَضيتُ سِواكُم في الهَوى بَدَلا، والحال أن فؤادَه قد مالَ واختارَ وارتوى، ولم يعُد فيه مكانًا لغير المَعشوق، ولا اهتمامًا بمَن عداه.
***
‎في كرة القدم؛ ينتقي قائدُ كُلّ فريقٍ وجهًا من وجهيّ العملة، ثم يُلقي بها حَكمُ المباراة ويلتقطها بين يديه، ويكون للرابح حقُّ الاختيار؛ نصف المَلعب أو ضربة البداية. فعلٌ إراديّ، فضربةُ حظّ، ثم اختيار جديد. على هذا تسير الحياةُ إجمالًا، فإذا انتهت اللعبةُ بسقوطٍ فاحش، ما أمكن لومُ الحظّ ولا استقام العِتاب.
***
‎اختِير ترامب على رأسِ قُوَّة عُظمى، وجيء بجونسون في بريطانيا، وفي أنحاءِ الأرض اختيارات أخرى مُذهِلة ومُخيفة؛ تؤكِّد حالًا مِن التعاسة، وتفضح بؤسَ الطموحات. كهذا تأتي أزمِنةٌ يُحوطها سوءُ الطالع، ويُعَمَّى فيها الناسُ؛ فيمضون باختياراتهم مِن مُنحَدَرٍ زَلِق إلى فَجّ عميق، ولا يُعَوَّل مِن بعد؛ سوى على وقفةِ بأس، ومُراجعة ثم حساب، فاختيار لا عماء فيه ولا تضليل.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات