«TÁR».. دروس كيت بلانشيت المايسترو العظيمة - خالد محمود - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 7:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«TÁR».. دروس كيت بلانشيت المايسترو العظيمة

نشر فى : الثلاثاء 14 مارس 2023 - 8:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 14 مارس 2023 - 8:50 م
رغم تاريخها الكبير فى تجسيد شخصيات مدهشة ومتميزة، إلا أن هذا الدور يمكننا أن نضعه تاجا على رأس الأداء التمثيلى الساحر والملهم لنجمات العصر، إنها الأسترالية كيت بلانشيت فى تجسيدها لشخصية «ليديا تار»، مؤلفة موسيقى عبقرية تواجه نفسها وتحاسبها مهنيًا وشخصيًا عبر طموحها تجاوزاتها وخياناتها العديدة حيث تلاحقها إساءة استخدام السلطة بفيلم المخرج تود فيلد «TÁR».. الذى أدعوك عزيزى القارئ، وعزيزاتى النجمات المصريات لمشاهدته وأعتقد أنه سيمثل نقطة فاصلة فى خطواتهن المقبلة إذا ما عشن تلك الرحلة بدروسها الفنية الكبيرة التى تجاوزت قواعد الأداء التعبيرية المألوفة.
الفيلم رغم طول زمنه «160 دقيقة» يسير بإيقاع رائع، ومفصل بدقة، وأداء لا تشوبه شائبة، على مدار الأحداث تكشف تار ــ الملحنة البارعة وأول امرأة تقود أوركسترا برلين الفيلهارمونية المرموقة ــ عن نفسها على أنها كائن أكثر تعقيدًا ويصعب تفسيره وهى تعيش حياة الرفاهية بصرامة حيث نرى استكشافا للطرق التى لا تعد ولا تحصى تتجلى فيها إساءة استخدام سلطة الشخصية، كما أننا أمام قصة تحاول تبديد أسطورة «العبقرية» وهالة تبرئة الفضيلة التى تتشرب فيها، للبحث فى الحقيقة الإنسانية المعقدة من خلال التركيز على شخصية تجسد عددًا كبيرًا من التناقضات: امرأة موهوبة بلا شك، تستحق الشجب بلا منازع، وجذابة بشكل كبير بحيث تكاد، تثير تعاطفًا مترددًا حتى عندما يُنظر إليها فى أسوأ حالاتها. تحتوى بلانشيت دور ليديا تار تمامًا لدرجة أنه من المستحيل حتى تخيل وجود هذا الفيلم بدونها، حيث تقدم أداءً صعبا وعميقا يليق بأحد أعظم الممثلين فى عصرهم.
ليديا تار ليست شخصية حقيقية بالكامل، لكن هذا الفيلم المثير سيجعلك تعتقد أنها كذلك. ويرجع ذلك إلى أن الكاتب والمخرج تود فيلد العائد للسينما بعد 16 عامًا الذى أنشأ شخصية وعالمًا يمكن تصديقه بشكل كبير، هذا العالم يتميز فى جوهره بأداء رائع لكيت بلانشيت، التى رسمت كيف تتسم شخصية ليديا تار بطبقات متعددة ومعقدة بدءا من المشاهد التى تدير فيها الأوركسترا كانت ليست مقنعة فحسب، بل إنها مثيرة بانفعالاتها كمايسترو لامع، ومنغمس فى نفسه، ومتلاعب، ومخادع، وقاسٍ. فى مشهد مبكر تقشعر له الأبدان، تواجه البلطجة التى تمارسها ابنتها فى ساحة اللعب من خلال النظر فى عينى الفتاة الصغيرة: «سأفهمك».
فى مشهد آخر بذروة الحبكة الدرامية تستعد تار لتسجيل مباشر لسيمفونية ماهلر رقم 5، والتى من المتوقع أن تصبح إنجازًا هائلا آخر، لكنها أيضًا تواجه عددًا لا يحصى من المواقف التى تخلقها لنفسها، تريد التخلص من مساعد قائد الأوركسترا سيباستيان بريكس (آلان كوردنر)، لكنها تعلم أن الأمر سيبدو مريحًا للغاية إذا استبدلته بمساعدتها فرانشيسكا لينتينى (نويمى ميرلانت). بعد كل شىء، تدور الشائعات بالفعل حول علاقات ليديا المشكوك فيها مع الشابات الساعيات إلى تسلق السلم.
مجرد مثال آخر على نمط قائد الفرقة الموسيقية فى طمس الحدود بين الحياة المهنية والخاصة، والتى تتشكل فى الخطوط التى يبدو أن ليديا عازمة على تجاوزها مرة أخرى مع أحدث عضو فى عازفة التشيلو اولجا (صوفى كاور)، وتوصف تار نفسها بأنها «مثلية، ويبدو أنها تجد الحب غير جذاب عندما يظهره لها الآخرون، وتتسلل الفوضى إلى عالم المايسترو الهادئ، وتبدو مربية تستخرج ما تريده من كل شخص فى فلكها، ولكن يتم استخدامها أيضًا من قبل الآخرين. وبالمثل، فإن فيلم فيلد لا يدور فقط حول مُسيئة متعجرفة تحصل على عقابها؛ كما أنه يطرح أسئلة فى الوقت المناسب حول سياسات الهوية وقدرتنا على فصل الفن العظيم عن الفنانين الذين صنعوه.
ستطاردك دراسة هذه الشخصية المبهرة لفترة طويلة بعد انتهاء المشاهدة لهذا الفيلم الصعب المكون من جزأين متميزين للغاية، أداء وسردا، ما بين منحنيات الصعود والوقوع فى صورة مزهلة، وكأنك تتسلق جبلًا، لنغوص فى هذا الفيلم المقلق بشكل رائع بفضل بطلته، هناك هذان المشهدان فى البداية اللذان يلتقطان هذه الطاقة. الأولى هى المقابلة الافتتاحية، والتى نرى فيها ردودها فى ردود قصيرة دقيقة، مثل الضربات الدقيقة على هدف. ثم نحصل على دروس أخرى فى مشهد واحد طويل متدفق، تمجد طالبًا ثم تدمره بلا رحمة فى كلاهما، ترى نقاط قوتها وسلوكياتها التى ستصيبها. تلتقط بلانشيت كل لحظة بهذه الحدة التى عليك مشاهدتها، حتى عندما تكون مدمرة للذات بشكل لا يصدق.
هذا لا يعنى أن كيت هى النقطة الجيدة الوحيدة هنا. كان الفيلم مليئًا بهذه اللحظات الصغيرة التى أحببتها. لقد انبهرت بكل السياسات وراء الكواليس فى الأوركسترا الفيلهارمونية والتجارب والقواعد والمسئوليات المختلفة، إنه فيلم دقيق فى أفكاره ولغته، قوة أخرى هى الموسيقى داخل العمل كم كانت مدهشة، بالفعل الموسيقى هى التعبير الدائم عن مشاعر لا توصف.
هناك الكثير مما يمكن قوله وكتابته عن «تار» لكن خلاصة القول هى: إنه أحد أفضل أفلام العام، إن لم يكن الأفضل.
خالد محمود كاتب صحفي وناقد سينمائي
التعليقات