دستورية الإشراف القضائي.. ومقتضاها - حامد الجرف - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دستورية الإشراف القضائي.. ومقتضاها

نشر فى : الجمعة 14 أبريل 2023 - 8:05 م | آخر تحديث : الجمعة 14 أبريل 2023 - 8:05 م
من المؤكد أن تنظيم وإدارة عمليات الاستفتاء والاقتراع العام هى من صميم أعمال جهة الإدارة (الحكومة) فى أى نظام سياسى. وهو ما درجت عليه مصر منذ دستور 1923 فأنشأت له إدارة عامة بوزارة الداخلية لسنوات عدة، والتى ورثت اختصاصها اللجنة العليا للانتخابات ولجنة الانتخابات الرئاسية حتى آلت تلك الاختصاصات جميعا للهيئة الوطنية للانتخابات والتى تعد أعمالها وقراراتها أعمالا وقرارات إدارية كذلك إذ هى ــ رغم تشكل مجلس إدارتها من قضاة منتدبين ندبا كليا ــ لا تفصل فى خصومة بين طرفين على حق أو مركز قانونى وفقا لأحكام القانون على نحو ملزم وذلك جوهر العمل القضائى وطبيعته المميزة له.
ولا تثير إناطة ذلك الأمر بجهة الإدارة أى مشكلة لدى الرأى العام وهيئة الناخبين والأحزاب المتنافسة فى الديمقراطيات الراسخة، لما لديها من ضمانات تكفيها من مزيد تحوط لسلامة إجراءات تحرى الإرادة العامة عبر الصناديق.
ومن المعلوم أن غاية إجراءات الاقتراعات العامة منذ بدايتها لنهايتها هو تحرى ورصد توجهات الإرادة العامة إزاء موضوع أو شخص بصدد أمر قومى ذى طبيعة دستورية أو بشأن إسناد سلطة عامة. ومن ثم فهى ليست استتماما لشكل أو أمر تكميلى يستهان به، بقدر ما هى تكريس إجرائى لمقتضى الديمقراطية النيابية، أوجبتها زيادة أعداد هيئة الناخبين فى كافة الدول مهما صغر إقليمها وقل عدد سكانها. وبناءً عليه، فإن جوهرها وغايتها يتطلبان أعلى معدلات الضمانات لصدقية نتائجها فى رصد الإرادة العامة وتوجهها بصدد أمور ليس هناك ما هو أخطر منها لأى وطن. وهو ما تتضح الحاجة إليه أجلى ما تكون كلما كانت الأمة المعنية فى مراحل تحول سياسى أو عقب ثورات تفصل بين ماضيها ومستقبلها، أو كلما كانت أحوالها الاقتصادية ليست بحال الوفرة أو التوازن، أو كلما كان النمط المنوالى السائد لشخصيتها القومية يبلغ حدا من الهشاشة أو التشوه بما قد يسمح بالتلاعب بإرادة شعبها أو تزييفها أو التأثير عليها.
من أجل ذلك أورد المشرع العادى حكما فى قانون مباشرة الحقوق السياسية سنة 1956 يوجب تعيين رؤساء اللجان العامة بالانتخابات من بين أعضاء الهيئات القضائية لغاية الإشراف على عملية الاقتراع وفقا للقانون مع ترك مباشرة عملية الاقتراع ذاتها لأعضاء اللجان الفرعية والتى كانت تُشكل من موظفين عامين.
واستمر الأمر كذلك حتى أورد دستور 1971 حكما غير مسبوق فى الدساتير المصرية السابقة أوجب فيه أن يتم الاقتراع تحت إشراف أعضاء من هيئات قضائية إلا أن جهة الإدارة ظلت على سابق عهدها فى تشكيل اللجان الفرعية والعامة، حتى أقام ذو مصلحة طعنا قضائيا على أحد قراراتها ودفع بعدم دستورية حكم قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية فى شأن الإشراف على الانتخابات، فطُرح الأمر على المحكمة الدستورية العليا لتُصدر فيه حكمها الشهير عام 2000 برئاسة المستشار ولى الدين جلال قاضية بعدم دستورية النص المطعون عليه ونُشر حكمها بالجريدة الرسمية، فأنيطت رئاسة كل اللجان الفرعية والعامة لقضاة من بعد ذلك اعتمادا للإشراف القضائى الكامل عملا بمبدأ «قاضٍ لكل صندوق» على حد ما عبارة المستشار فاروق سيف النصر وزير العدل آنذاك، وذلك على مدى 6 استفتاءات دستورية، و4 انتخابات رئاسية، و8 انتخابات برلمانية بدءا من استفتاء تعديل المادة 76 من دستور 71 الشهيرة عام 2005 وحتى الآن، بما مجموعه ثمانية عشر حالة مؤكدة للتكرار والاطراد فى التطبيق، ومرورا بظروف تغيرات سياسية كبرى لا تخفى.
• • •
استمر الحال كذلك حتى دستور 2014 وتعديلاته والذى أناط بالهيئة الوطنية للانتخابات اختصاصات اللجنتين السابقتين عليها، واختصها بإدارة عمليات الاستفتاء والانتخاب، وحدد لرئاستها قضاة يندبون ندبا كليا بقرار جمهورى بما يعنى انفكاكهم من ولايتهم القضائية، وقرر اختصاص المحكمة الإدارية العليا بالفصل فى الطعون على قرارات تلك الهيئة بما يقطع بطبيعتها الإدارية أيا كانت الصفة السابقة لأعضاء مجلس إدارتها. وقرر بالمادة 209 منه وجوب أن يكون لتلك الهيئة جهازا تنفيذيا يُراعى فى أعضائه صفات الحياد والاستقلال والنزاهة، وأناط بجهاز تلك الهيئة تولى عملية الاقتراع مجيزا للهيئة أمر الاستعانة بأعضاء من الهيئات القضائية، ثم أورد بذات المادة حكما أوجب فيه تمام عمليات الاقتراع فى السنوات العشر التالية على إعلانه تحت إشراف كامل من أعضاء الهيئات القضائية.
فكأن الدستور الحالى إذن لم يلغ الإشراف القضائى الكامل على إطلاق المبدأ وعلى وجه الدوام. ذلك أن جهاز الهيئة التنفيذى والذى كان مزمعا تكوينه، لم يتم أمر تكوينه للآن، بل ولم يصدر قانون تشكيله على نحو ما حددته المادة 209 من الدستور، فضلا عن أن المادة 210/1 من الدستور قد أجازت لتلك الهيئة الاستعانة بأعضاء الهيئات القضائية على إطلاق فى تلك الاستعانة، ولذلك فمدة السنوات العشر التى حُددت بالفقرة الثانية إن هى إلا مهلة للهيئة لتشكيل جهازها التنفيذى، فإن استوفتها دون صدور قانون يحدد تشكيل ذلك الجهاز ودون إجراءات تنفيذية لتشكيله بالفعل فإن تلك المهلة تكون قد ولت وانقضت بما يوجب إناطة عمليات الاقتراع على نحو كامل لإشراف أعضاء الهيئات القضائية، ليس فقط للنص على ذلك بالفقرة الثانية، وليس فقط لعدم إلغاء الدستور لذلك الإشراف الكامل بنص صريح، وليس فقط لأن ذلك يتوافق والمزاج العام للشعب المصرى على حد قول بعضهم، وإنما لسبب سابق على ذلك قوامه أن قاعدة عرفية دستورية قد نشأت واستقرت بوجوب الإشراف الكامل لرجال القضاء على أى اقتراع «قاضٍ لكل صندوق» وذلك باعتبار تواتر العمل على ذلك من كافة سلطات الدولة منذ حكم الدستورية العليا والتزام الحكومة به وفقا للقانون وقبول الشعب صاحب السيادة له بحسبانه ضمانة لصحة الاقتراعات وبناء على الطبيعة الدستورية لذلك الحكم ورسوخ الاعتقاد بإلزاميته كقاعدة قانون على نحو ما توافر فى التطبيق من تكرار واطراد لتنفيذه وعمومية ووضوح وثبات لمضمونه. هذا وإن كان حكم الدستورية العليا المشار إليه قد أتى مفسرا لحكم الدستور وقاضيا بعدم دستورية نص التشريع العادى الذى دفع بعدم دستوريته، فإنه الآن وفى ظل دستور 2014 المعدل ووفقا لنص المادة 210 منه ولمرور مهلة إنشاء الجهاز التنفيذى للهيئة الوطنية للانتخابات دون تشكيله، فإنه يضحى عرفا دستوريا مكملا لنص الدستور القائم استنادا لذات نص المادة 210/2 منه والتى أوجبت استمرار ذلك الإشراف طوال المهلة التى منحت للهيئة والتى لم تقم خلالها بإنشاء جهازها التنفيذى ولعدم النص الدستورى الصريح بإلغاء تلك الصورة من الإشراف على الاقتراعات.
• • •
بقيت فى مقامنا هذا ثلاثة أمور، ونافلة، تستحق الإشارة إليها:
أما الأمر الأول فيتمثل فى أن ما تطلبته المادة 209 من الدستور من صفات يتعين مراعاتها فى أعضاء الجهاز التنفيذى للهيئة عند تشكيله من الحياد والاستقلال والنزاهة، هى صفات مفترضة بالضرورة فى كل من يلى ولاية القضاء ومما تتصون لبقائه كافة الهيئات القضائية لصيقا بشخوص رجالها.
وأما الأمر الثانى فمعلوم أن منهجية التشريع وفلسفته تستوجب من المشرع وكلما كانت المصلحة التى يراد حمايتها جسيمة وحيوية وبالغة الأثر لذويه أن يتحوط لتلك المصلحة بفرض العديد من نطاقات الحماية حولها تحسبا من المساس بها. ولذلك فلا وجه للغرابة فى أن يتحوط لحق المواطنين والمواطنات فى مباشرة حقوقهم السياسية بكل ما يمكنه من نطاقات حماية.
وأما الأمر الثالث فمضمونه أن عملية الاقتراع ليست فقط مجموع الإجراءات التى تتم لتمكين الناخبة والناخب من الإدلاء بصوتهما بحرية وسرية داخل اللجنة الفرعية وليست فقط فرز أوراق الانتخاب بعد تمامه، وإنما تمتد لتشمل الإعلان عما أفصحت عنه إرادة الناس بالصناديق، ذلك الإعلان الذى لا ينبغى قصره على الهيئة الوطنية للانتخابات بل يتعين أن يسند أمره لرئيس كل لجنة فرعية وعامة. حتى يمكن للرأى العام أن يكون رقيبا على أداء الهيئة الوطنية ذاتها، وبذلك تتأكد ثم تترسخ مصداقية الهيئة بما يرتفع معه معدل الثقة فيها.
وأما النافلة فتتعلق بجدوى إنشاء جهاز تنفيذى للهيئة ليتولى العملية برمتها وهو ما لن يقل عدد أعضائه عن مائة ألف أو يزيدون باعتبار احتياج كل لجنة فرعية لخمسة أعضاء على الأقل، وليعمل هذا الجيش الجرار لمائة يوم على الأكثر من كل عام. وهو ما أظن أنه يعد من قبيل إهدار الطاقات دون مقتضى.
ومن ذلك يتبين أن الإشراف القضائى الكامل لا يزال يعد فريضة دستورية فى ظل أحكام الدستور الحالى. وأن من مقتضاه لزوما إسناد اختصاص إعلان فرز نتيجة كل لجنة فرعية وعامة بقاضيها، والوطن من وراء القصد.
حامد الجرف قاضٍ مصري سابق
التعليقات