ضَـــرْبَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 10:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ضَـــرْبَة

نشر فى : الجمعة 15 أبريل 2022 - 8:45 م | آخر تحديث : الجمعة 15 أبريل 2022 - 8:45 م
خرجَ الرجلان من سيارتيهما يسبقهما صوتاهما بالسباب. ناول أحدهما الآخرَ ضَربةً عنيفةً طالت كتفَه، فما كان من المَضروبِ إلا أن انحنى أرضًا، لا من وطأة الألم؛ بل ليتناول حجرًا منفلتًا عن الرصيف، فيرمي به ناحية المُعتدي. كالعادة فَصَلَ الناسُ بينهما وأقاموا الحوائل والسدودَ، هدأوا ثائرةَ المَضروبِ وأزالوا عنه روحَ الانتقام التي تلبَّسته للحظات، وأخيرًا انفض الجمع وعاد كلٌّ إلى ما كان مَشغولًا فيه.
• • •
الضَربَةُ اسمُ مرةٍ من الفعل ضَرَب بفتح الراء، والمصدر هو ضَرْبًا بتسكينها، أما المِضْرَب فأداة تُستَخدَم لأداء الفِعل الذي يمتد أثره من بشرٍ إلى حيوان إلى جماد، فتستوجبه على سبيل المثال بعضُ أعمالِ الطهو؛ كضَربِ مُكوّنات المَخبوزات والحلويات لجعلها خليطًا مُتجانِسًا، وضَرب الفاكهةِ في الخلَّاط كي تُصبح عصيرًا وغيرها.
• • •
إذا قيلَ ضَربة معلم؛ فالمعنى قرارٌ حصيفٌ أصاب التوقيتَ والمكانَ المناسبين، وربما عمل موفق سديد، يقتنص لصاحبه فوزًا مهمًا يكيد الخصوم ويذيقهم الخسارة، أما إذا قيل ضربة حظّ؛ فتوفيق في اختيار لم يبنَ على أساس، لا تفكير ولا إعداد، إنما حدثٌ عشوائيّ يجني المحظوظَ من ورائه مكسبًا غير مُتوقَّع. ضربةُ الحظّ قد تكون بطاقةً صغيرةً تَمنح من يجدها زجاجة مياه غازية مجانية أو أيس كريم، وقد تكون ربحًا له وزنٌ وقيمة. تكاثرت الإعلاناتُ التي تحثّ المُشاهِدَ على الاتصال واغتنامِ فُرصةٍ يربح من ورائها مئات آلاف الجنيهات، ليس عليه في هذه الحال أن يجتهدَ أو يشُقَّ على نفسِه، ليس إلا أن يضغطَ أزرارَ المَحمُول ويترك بياناته. المَكسبُ السهل مُغرٍ، لكن الحظَّ في كثيرِ الأحيانِ عنيد.
• • •
قد تكون الضَّربةُ القاضيةُ حقيقةٌ واقعةٌ وقد تكون مِن المَجاز. يُسدّد المُلاكِمُ قبضتَه فيُسقِط منافسَه أرضًا، أو يتلقى مُضارِبُ البورصةِ نبأ خسارةِ أسهمِه فيسقطُ بدوره. كلتاهما ضربةٌ قويةٌ وكلتاهما مؤثرةٌ، لكن السقطتين وتبعاتِهما حتمًا تتباينان.
• • •
ثمَّة ضربةٌ جَويةٌ تعرفها المَعارك والحروبُ؛ تُمَهّد الأرضَ لغزوٍ بريّ لاحق، أو تدكُّ حصنًا للعدو، أو تدمّر عتادًا يمثل خطرًا على طرف من الأطراف المُتنازِعة. قد تصبح الضَّربةُ استباقًا يحمي مِن هجومٍ وشيك، وقد تؤدي مُهمةَ الغطاءِ لعملٍ آخر يجري بالتوازي، وقد تبيت كافيةً بذاتِها وتُغني عما سواها. إذا اتسمت الضَّربةُ بالدِقَّة وعظُمت شدتُها وضاق هدفها وتحدد في صرامة؛ وُصِفَت بأنها ضربةٌ مُركَّزة، يتقلَّص فيها مجالُ الخطأ والانحراف، وتتمتَّع بحرفيةٍ عاليةٍ توفرها المهارةُ وتصقلها الخبرة.
• • •
إذا كان القصد إيذاءً نفسيًا فالضربةُ الواحدةُ مثل عشر؛ يتحقَّق منها كسرٌ معنويٌّ يصعب جبره. ضَربُ الأهلِ لأولادِهم يورِثُ الضَّعفَ والهوان، وضَربُ المُعلم للتلاميذ يُورِثُ المَذلَّة، وضَربُ الرَّجُلِ لزوجِه يُورِثُ الدونيةَ ويُكرّس الشعورَ بعدمِ الاستحقاق. بعضُ الناسِ يعدون الضَّربَ وسيلةً ناجعةً مِن وسائلِ التعليمِ، وأداةً لا غِنى عنها من أدواتِ التربية؛ والحقُّ أن الإيذاءَ الجسديَّ ليس سوى جريمة.
• • •
بعضُ الهَذرِ ثقيلٌ لكنه يمضي بسلامٍ إذ درجَ عليه الناسُ، يقول واحد لآخر: ضربة في قلبك، فيضحك ويتمادى في المزاحِ، لا يضيق بالأمنيةِ التي تبدو شريرةً ولا يغضب إذ ربما تَتَحقَّق. الضَّربةُ في القلبِ قد تكون قاتلةً، لكن مساحاتِ التباسط ومتانةِ العلاقاتِ وقِدمِها؛ ينزعان عن المعنى قسوتَه ولا يتركان في الأجواءِ سوى ما يُرام مِن مَرحٍ وفُكاهة.
• • •
تحوَّل تعبير المُعلِّق عادل شريف إلى علامةٍ من علاماتِ مُباريات التنس التي تجري على ملاعب البطولات الأربع الكبرى. اعتاد أن يَصيحَ بين الحين والآخر: ضَربة ساحقة ماحقة، شارحًا ما تابع المشاهدون مُنبهرين؛ إذ تَمرقُ الكرةُ الصغيرةُ من فوق الشبكةِ، فلا تكاد الأعين تلحظ اتجاهها من فَرطِ السرعةِ والقوة. شَهدتُ في شغفٍ عميق ذروةَ تألق اللاعبتين مارتينا نافارتيلوفا وشتيفي جراف، ثم ظهور الُمنافِسة العتيدة أرانشا سانشيز والأختان وليامز، إلى جانب لندل وبيكر وسامبراس وبقية أقرانهم من اللاعبين الرجال. توقفت متابعتي للمباريات منذ سنوات خَلَت. لم تعد في الحياةِ رفاهةُ الجلوسِ لساعات أمام الشاشة، ولم يعد الملعبُ جاذبًا اللهم إلا إذا طغى الحنين، واستبدَّت بالروح ذكرياتٌ مَنسية.
• • •
إذا جاء ذكر الضَّربةِ وجَمعِها؛ حَضَرَت إلى الذهنِ ضرباتُ القَّدر؛ السيمفونية الخامسة لبيتهوفن؛ العبقريّ الأصمّ الذي أسمع الناسَ موسيقى حياةٍ تجري داخله. كُتِبَت السيمفونيةُ في مَطَلع القرن التاسع عشر في سلم دو الصغير، ويأتي مطلعها بدقات أربع متتالية لها وقع مُهيب، وقد قدمت للمرة الأولى على مسرح آن دير فاين في فيينا، وهي من أغزرِ الأعمالِ الكلاسيكية عزفًا.
• • •
ضربة تتبعها أخرى؛ يضع القدر أوزارَه، ويتأهب الناطرون لما هو آت؛ لا يملك أحدهم مغادرةَ موقِعه ولا يتمكَّن من إيقافِ التفاعل الحتميّ.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات