الجانب الآمِن - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 8:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الجانب الآمِن

نشر فى : السبت 15 أغسطس 2015 - 10:40 ص | آخر تحديث : السبت 15 أغسطس 2015 - 10:40 ص

يبحث أغلبنا عما يكفل له حدا مِن الأمان. بعضنا يلتزم الجانب الآمن مِن الشارع حتى لا تدهسه العربات، وبعضنا يهتم بالبقاء على الهامش الآمن مِن وظيفته حتى لا يتعرض للأذى فى قوته. مِنا مَن يسعى إلى الجانب الآمن فى العلاقات الشخصية، ومِنا مَن يمضى فى طريقه مُتلمِسا الجانب الآمن مِن الحياة بوجه عام. قليلون ينزحون إلى جانب الخطر بكامل إرادتهم.

ينحو المرء فى معظم الأحوال إلى الابتعاد عن الصراعات الداخلية أيا كانت دوافعها، يتحقَق له الأمان النفسى إما بإيجاد حلٍ جِذرى لها، أو بمراوغتها. يمكن إسكات الصراع عبر وسائل مُتعددة قد يكون الإنكار إحداها؛ ننكر خطأ نستكبر الاعتراف به. نكتشفه ويكتمل إدراكنا له، لكنا قد نفر إلى الجانب الآمِن وننفى وجوده أملاً فى الإفلات مِن مُواجهة صَعبة. قد تصبح المُبالغة فى إظهار المشاعر وسيلة أخرى؛ إعلان الفرحة المتواصلة غير المحدودة قد يُمثل الاختيار الآمِن للهرب مِن أزماتنا، نستخدمه للتغطية على حزن أو ضيق، ولمُداراة واقعٍ مؤلم أو إحباطات مُتتالية.

•••

التصديق دون تريُث وتفكير، ودون قيد أو شرط هو أيضا مُحاولة لجوء إلى الجانب النفسى الآمِن، وسيلة للتحايل على موقف قاسٍ وعسير يستعصى على المرء التحكم فيه. نذكر حتى اللحظة كيف اندفع الآف وربما مئات الآف الناس مُتهللين، حال ظهور ذاك الجهاز الذى سوف يقضى على أمراضهم الفتاكة كافة، اندفعوا يعبرون عن إيمانهم التام بالكشف العظيم، ويُظهِرون امتنانُهم لأصحابه، اصطفوا فى طوابير مُنتظرين إضافة أسمائهم، مُعلقين أمل الشفاء والتخلُص مِن قسوة المرض على حُلمٍ طفولى لا أقدام له على الأرض. لم يفكر أحد الحالمين فى كُنه الاختراع ولا فى غرابته. فقط صدقوا وصدقوا. حَلَ الموعد وتأجل العلاج أشهر وأشهر وتحول الأمر إلى مَزحة ثقيلة وكبيرة، تمت التغطية عليها بحِيل إعلامية مُكثفة. لم يكُن هناك جهازٌ ولا ابتكارٌ علمى يتسابق العالم على مَعرفة سِره، لم يكُن هناك علماء ولا عباقرة، لم يكُن هناك سوى أشخاص تعساء يسعون إلى أمان مفقود ومُنقِذٍ غائب.

•••

يلجأ كثيرون إلى الجانب الآمِن عن غير وعى، ويختاره البعض عن كامل إرادة وإدراك، بينما يفعل آخرون عن موقف اضطرار. تصعُب التفرقة بين الفِرق الثلاث خاصة حين تقف السلطة الحاكمة خصما ومصدرا للخطر. لم أعرف على وجه التحديد إلى أى فرقة ينتمى المثقفون والمبدعون الذين وقعوا بيانا ينادى بتعديلات تشريعية لمكافحة «الإرهاب»، رغم ما يشى به الأمر مِن خنق وانتهاك للحريات، لم أعرف إلى أيها ينتمى المذيعون والمذيعات مِن أصحاب عبارات التعظيم الفجة والمُبالغات المُفجعة حول تفريعة قناة السويس الجديدة، ومثلهم الخبراء وأهل الاختصاص، الذين حملت أحاديثهم مُغالطات فى التاريخ والجغرافيا لا شفاعة فيها، ولا أعرف حتى اللحظة إلى أى فرقة ينتمى رجالُ الدين أصحاب الخطاب المُتهافت الذى حوى مِن التشبيهات والاستعارات ما يرقى إلى أجواء العبث الرفيع. فقط أظن أن أداء بعض أولئك وهؤلاء لهو بمثابة سعى حثيث للبقاء وسط زمرة الآمنين.

دفعنى ما سمِعت ورأيت على مدى أيام إلى التفكير إن كان هناك مَن يجرؤ على الخروج إلى نهر الطريق، وتوجيه نقد أو اعتراض ما وسط هوجة الثناء والمديح غير المشروط، وحيث يُسائلُ أشخاصٌ بتهمة الإساءة إلى جماد. لا أظن شخصا عاقلا يختار فى هذه الأجواء التعبوية، الشرسة، والمجنونة التى نعيشها، إلا أن يقف على الجانب الآمن، وأن يلتزم الحديث الآمن، بل والإيماء الأمن. يدفع الخوف صاحبه إلى التماس الطمأنينة والسلام بأية وسيلة، ويدفع الطمع أربابَه إلى التروى وتحَسُس الطريق.

•••

مع كل الاحتياطات والتدابير ورغم طأطأة الرؤوس، يجد البعض أنفسهم إذ فجأة خارج ذاك الجانب الآمِن الذى اطمئنوا إلى استقرارهم فيه. تتحلَل تحالفات الأمس القريب، ويغدو أصحابُها فى مهب الريح، يتلفتون حولهم مندهشين، لكن الدهشة لا مَحَل لها فالسلطة لا تبدو راغبة فى شركاء وأعوان كثيرين. البعض يُحرَم حقوقه الطبيعية فى التنقل هنا وهناك، والبعض يتم التنكيلُ به عبر إعلامٍ حليف، وآخرون تُنتَزع منهم أدواتهم الأثيرة فيمنعون مِن الخطابة فى الناس، وثمة مَن يتعرضون لإهانات أمنية لم تكن فى الحسبان، وكلما ضاق الجانب الآمِن بمن فيه، استحكمت الدائرة المُغلقة: يتخذ الخائفون مواقعهم فى ظل السلطة، ويُسَبحون بحمدها، ثم يدركون أن تسبيحَهم لم يعُد كافيا، فيزيدون مِن صلواتهم لها، وتستمر المُزايدات التى لا هدف مِن ورائها إلا الوصول إلى الجانبِ الآمِن والبقاء هناك، فيما هو وهمٌ كبير.

للسعى إلى الجانب الآمن مَخاطره، وللمُبالغة فى المشاعر أيضا مخاطرها؛ كلاهما يصعُب التراجُع عنه، أو وضع حدود له، أو الحد مِن التمادى فيه، وربما لا يُكَللان فى نهاية الأمر سوى بخيبة أمل هائلة، وخسارة لا سبيل إلى تجاوزها تطالُ الجميع.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات