تراكمت هذه الأزمة بكل فصولها حينما صدر إعلان دستورى جديد، وتتابعت مجموعة من المشاهد تدل على الاستقطاب الشديد والانقسام المريع والفرقة البادية بين القوى السياسية المختلفة لتؤكد أن مشروع الجماعة الوطنية الذى يعد أهم الاستثمارات المجتمعية والسياسية فى هذا الوطن بما يحققه من لحمة وتماسك وتسامح وثقة قد أصابه أذى وضرر بالغ، وبدا الأمر فى أشكاله وإشكالاته شديد الخطورة لمن يتبصر هذه المشاهد ويمحص معنى تقاطع المصالح وتضاربها بين الفرقاء الذين كانوا رفقاء، وفى هذا السياق نشير إلى مجموعة تلك المشاهد المتعلقة بالقرار والحصار والتظاهر والحوار وبوادر دمار ومعارضة مرار، مشاهد جميعها تستحق التأمل والتبصر والتعمق.
●●●
أول هذه المشاهد يتعلق بالقرار من مؤسسات تقوم على صناعة واتخاذ القرار وفق مصلحة شعبية ومصالح مرعية، لتصل إلى أهدافها من أقصر طريق وتحقق من الناحية الاستراتيجية لحمة المجتمع وتماسكه واستثمار قدراته وإمكاناته وحشد قواه وكفاءاته حتى يترجم القرار إلى واقع وسياسات وآليات تسهم فى تحقيق أهداف الثورة وتمكن لنهوض الوطن، هذا هو القرار فى مبدئه وغايته فى مبتدئه وخبره فى فكرته وتطبيقاته، إلا أن المؤسسات بدت فى حالة من العشوائية فى التعامل مع المواقف وفى اتخاذ القرارات وبدت الأمور تجمع بين الصالح والطالح مما أوجد حالة من المعارضة للقرار واهتزاز الاستقرار.
هذا الشأن إنما يعبر عن سؤال كبير وخطير كيف يصنع القرار؟ كيف يمكن تصنيع ما يمكن تسميته بقرارات الأزمة؟ والتى تتفاقم فى عملية تأزيم تصل مع المواقف المغلقة إلى طريق مسدود وجدار ممدود، يتمثل ذلك فى الإعلانات الدستورية، وفى القرارات التى أعقبتها والقوانين التى أصدرتها لتعبر عن حالة شديدة الخطورة من عشوائية القرار، ذلك أن أى قرار استراتيجى يستحق منا البحث فى القرار وصياغته وبيئته والمستهدف منه والآثار المترتبة عليه، والبحث فى مآلاته، وتوقيته، والقدرة على التمكين له من خلال آلياته وسياساته، إلا أن الأمر يشير إلى إعلان دستورى معيب فى بعض مواده ويحقق بعض أهداف الثورة فيطرد السيئ منه الصائب فيه، ويكون ذلك تكأة لمعارضة تملأ الدنيا ضجيجا حول الإعلان ومن أصدره ونيته فى الاستبداد وصناعة فرعون، وقرار آخر برفع الضرائب على سلع معينة يصدر ويجمد فى بضع ساعات ليعبر عن فوضى بين أجهزة الدولة المختلفة.
وهذه دعوة للحوار تقوم بها القوات المسلحة فى تضارب غريب وعجيب فى الدعوة والهدف، بين مؤسسات دولة تفتقد أى قدر من التنسيق حتى فى المسائل الإجرائية الصغيرة لتعكس أمام المواطن عدم اتساق بين المؤسسات المختلفة تعطى الرسائل بشكل لا يليق بالدولة ولا بمؤسساتها ولا بتسيير سياساتها، وتوج ذلك بإلغاء هذه الدعوة أو تأجيلها لتعبر عن تضارب فى مشاهد القرار حتى لو كان بصدد مجرد دعوة حوار.
●●●
المشهد الثانى يتعلق بمشاهد الحصار اقترنت بخطابات تتراشق هنا وهناك ما بين قوى منقسمة، فهذا حصار لقصر الرئيس فى الاتحادية واعتصام أمامه، وهذا حصار لمبنى المحكمة الدستورية، وهذا حصار لمدينة الإنتاج الإعلامى، وحصار من بعض المعتصمين فى الميدان لمجمع التحرير، وهذا حصار لبعض محطات المترو وتعطيل مصالح الخلق، كل ذلك كان عنوانه تأييد الإعلان الدستورى والاستفتاء أو معارضة هذا وذاك، إن من أيد يحاصر المؤسسات وإن من عارض حاصر أبنية ومؤسسات، ماذا يعنى هذا المشهد الخطير الذى أضاف إلى مشكلاتنا مشكلة أخرى تتعلق بأن من لا تعجبه مؤسسة فليحاصرها، هل هذا هو منطق الدولة؟ من أسف أن فريقا منهم يؤكد أنه يفعل ذلك ليمارس حقه الاحتجاجى من دون أن يلقى بالا لهيبة الدولة وأن الفريق الآخر يفعل كل ذلك بدعوى الحفاظ على هيبة الرئيس وهو يهدر هيبة الدولة، وفرقاء يذهبون هنا وهناك ليعبرون عن تأييد واحتجاج هو بالخصم من هيبة الدولة والدخول على عتبة انكسار الدولة وفشلها.
●●●
المشهد الثالث يتعلق بمشهد التظاهر الذى تفرق بين ميادين عدة بين التأييد والرفض، وفى إطار حمل جملة من الشعارات تهدد وحدة الوطن وتماسك الجماعة الوطنية ويحرض هنا وهناك، ويستخدم لغة تخوينية ولغة تكفيرية، إن رصيد الثقة والعيش الواحد المشترك صار فى هذا المقام فريسة لخطاب التنافى والإقصاء والاستبعاد والاتهام والهجاء، واتهم كل اتجاه بأخطر الاتهامات لنجد فى النهاية أن رفقاء الثورة صاروا أعداء على حافة الاحتراب والتقاتل، وحينما التقى الجمعان فى قصر الاتحادية دارت معركة وسقط شهداء، ولم يعلن أحد من قيادات الطرفين مسئوليته المباشرة وغير المباشرة عن إراقة الدماء وسقوط شهداء.
المشهد الرابع هو مشهد الحوار، دعونا نستدعى مع مشهد الحوار مشهد القرار، وهنا يبرز التساؤل واضحا لماذا يصدر القرار فإذا وصل بنا إلى حالة انسداد دعونا إلى الحوار، أليست الإجابة البديهية فى هذا المقام الحوار قبل القرار، خصوصا حينما تتعلق الأمور برؤى استراتيجية تتعلق بمستقبل الوطن وحماية الثورة، لماذا يتكرر مشهد القرار الذى يرتبط بالانسداد الذى يتعلق بوطن وشعب ذاقا الأمرين لا يتحملان المواقف الصلبة أوالمغلقة، وسيظل الحوار يستخدم فى غير مقامه لا يحقق الهدف المراد منه أو المغزى المتعلق به.
●●●
المشهد الخامس يتعلق ببوادر ومشاهد دمار تمثل فى حرب شوارع وفى إحراق مقار ،وفرز على الهوية فى الدخول إلى الميادين المختلفة، ميادين أغلقت على المؤيدين وميادين أغلقت على المعارضين، وانقسمت الصورة وشاشات التلفزيون على القنوات المختلفة لتعبر عن حال الانقسام والاستقطاب وحال انقسام ميادين الوطن.
المشهد السادس يتعلق بالمرار ويتمثل فى معارضة تحتمى بمواقف تصلبت حولها واستدعت شبابا ليتحلق حول مواقف مغلقة لا تسمح بأى نقاش أو انفراج أو حوار، نخبة محنطة تحاول بفعلها ومواقفها أن تحرك نوازع شتى اختلطت فيها قواعد التنافس السياسى بمصالح آنية وأنانية وتحكمت فى الجميع شهوة السلطة على حساب الوطن ومقدراته، هذه المعارضة المرار لم نجن منها سوى الحنظل، وبدت هذه النخبة فى مواقفها المتسلطة والمتصلبة تتميز بقدر من التردد والبطء فى التعامل مع الموقف، وبدت لعبة شد الحبل بين سلطة تريد أن تحكم وتتحكم ونخبة تريد أن تحكم وتتمكن.
●●●
فى ختام هذه المشاهد من الواجب الإجابة على سؤال غاية فى الأهمية وهو أين المسار؟، هذا المسار يتعلق بضرورة أن ندخل على هذه المشاهد جميعا بالتصحيح الواجب، وبالنقد الذاتى الذى يجب أن يقوم به كل فريق، وأن نحقق أصول حوار وبيئة مواتية له يمكن لمعنى الجماعة الوطنية وتماسكها، والعمل على حماية كيان الوطن، وحماية أهداف هذه الثورة، والخروج من حال العقلية الحشدية حول المواقف المغلقة التى لن تؤدى إلا إلى طريق مسدود، إن التعامل مع هذه العقلية الحشدية هو أسوأ اختيار يمكّن لانقسام وفرقة، ومن هنا فمن الضرورى ألا نقف أسرى هذه اللحظة الراهنة التى تسيطر عليها معانى الأزمة لنحاول تأسيس نخبة جديدة على قاعدة جديدة تمكن الشباب وتحفظ الثورة، وتحمى الوطن، نخبة جديدة تتخطى قواعد اللعبة القديمة والتقليدية تمثل الثورة حتى لو كانت فى مصاف المعارضة، هل نستطيع أن نحول مشاهد الانكسار الى حقائق انتصار على كل نوازع الفرقة والانقسام والاستقطاب، وتولد من بطن المحنة منحة نتعلم منها جميعا؟!
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة