ما قيمة ما حصلت عليه من تمويل خارجى؟ سؤال اعتيادى يواجهه بانتظام أى عامل فى الحقل الأكاديمى فى أى جامعة أو مركز علمى محترم سواء فى إطار التقييم الدورى لأدائه الأكاديمى أو فى أى من المراحل الرئيسة لعمله الوظيفى مثل الترقية وما شابه ذلك.
السؤال مرتبط بطبيعة الجامعة والبحث العلمى فى الدول التى لديها بنية صالحة لإنتاج المعرفة وحيث «التمويل» ليس لفظا سيئ السمعة بل هو المحرك الأول لعجلة إنتاج المعرفة، وتعتبر القدرة على الحصول عليه معيارا رئيسا لتقييم الباحثين. وليس هناك برنامج محترم للدراسات العليا فى أى مكان فى العالم لا يتضمن تدريب الطلاب على كتابة مقترحات الأبحاث الموجهة إلى الجهات المانحة من أجل الحصول على تمويل.
وتعد القدرة على الحصول على التمويل دليلا على أهمية البحث وتماسكه، حيث تخضع طلبات التمويل لعملية تدقيق من قبل متخصصين فى المجال تتشابه مع عمليات التحكيم التى تخضع لها الأبحاث الأكاديمية قبل إجازتها للنشر فى الدوريات المتخصصة. ليس الحبل على الغارب بالطبع بل يخضع الحصول على التمويل لعمليات تدقيق يقوم بها فى الغالب المجتمع البحثى نفسه وتتعلق بأشياء من قبل تضارب المصالح الذى قد يؤثر على السلامة العلمية للبحث أو يلقى بظلال من الشك حول نتائجه كأن يتم تمويل بحث عن تأثير التدخين على الصحة، تقوم بتمويله كبرى شركات إنتاج السجائر.
تضر السلطة فى مصر بالبحث العلمى ضررا بالغا، لأنها فى إطار معركتها ضد منظمات المجتمع المدنى وبالذات تلك المعنية بحقوق الإنسان، أشاعت فكرة أن الحصول على التمويل هو بالضرورة شىء مشين، بل وقامت عمليا بتجريمه حسب القرار بقانون 128 بشأن تعديل قانون العقوبات بشأن تلقى التمويل، والذى أصدره الرئيس السيسى فى سبتمبر 2014، وهو القرار ذو الصياغة الفضفاضة والتهم المبهمة مثل ارتكاب عمل ضار بمصلحة قومية أو تلقى «الأشياء الأخرى» من جهات أجنبية أو محلية وبالتالى وضعت كل أشكال التمويل فى مرمى عقوبات بالغة الشدة تصل إلى الإعدام.
●●●
لا جدال فى أن البحث العلمى فى مصر يواجه أزمة كبيرة، وللأسف غالبا ما يقتصر الحوار حول هذه الأزمة على مسألة ضآلة وهى النسبة المخصصة للبحث العلمى فى موازنة الدولة مقارنة بهذه الدولة أو تلك.
رغم أهمية هذه النسبة ودلالاتها على تدنى اهتمام الدولة بهذا الموضوع، إلا أن المشكلة الحقيقية لا تكمن فى هذا الموضوع وإنما فى غياب المناخ والآليات التى تسمح بدوران آلة البحث العلمى والتى يلزمها قبل كل شىء إتاحة الحرية بكل أشكالها: حرية التفكير وحرية التعبير وبالطبع حرية الوصول إلى المعلومات. كما أنه يلزمها بكل تأكيد إزالة الوصم عن فكرة التمويل الخارجى والذى كما ذكرت هو عصب آلة البحث العلمى فى الدول المنتجة للمعرفة.
فلنتوجه مثلا بسؤال لأعضاء المجلس الاستشارى العلمى، وهو الهيئة الرفيعة المنوط بها مساعدة رئيس الجمهورية فى تشكيل رؤية وسياسات تحفز الإنتاج العلمى: هل وصلوا إلى تلك المكانة العلمية الرفيعة دون الحصول على تمويل خارجى؟ هل كان باستطاعة الدكتور أحمد زويل وهو الشخصية الأبرز فى هذا المجلس، أن ينجز أبحاثه التى تخدم الإنسانية وترفع من شأن المؤسسة العلمية التى ينتمى لها لو كان يعمل فى جامعة أو مركز علمى محكوم بقانون يجرم التمويل؟ لو كانت الإجابة بالنفى فلماذا يرتضى إذا أن يعمل زملاؤه من العاملين فى المؤسسات المصرية تحت قوانين تشل قدرتهم على العمل والإنتاج العلمى؟ فالبحث العلمى ليس قطاعا منفصلا يمكن التعامل معه بمعزل عن المناخ السياسى والقانونى السائد وأعتقد أن أعضاء المجلس العلمى الاستشارى عليهم مسئولية سياسية وأخلاقية فى العمل على مناهضة القوانين التى تكبل حرية البحث سواء فيما يخص التمويل أو حرية الحصول على المعلومات وفى استخدام وزنهم العلمى والرمزى فى الانتصار لقيم البحث العلمى.
●●●
ما سبق هو مثال واحد فقط ــ عن قطاع أعرفه ــ من الآثار الخطيرة التى يرتبها استهداف السلطة لمنظمات المجتمع المدنى وبالذات العاملة فى مجال حقوق الإنسان، ويبدو أن السلطة واقعة تحت وهم أن تفصيل القوانين وتسليحها بكافة أنواع المنع هو الحل الجراحى الناجع لاستئصال منظمات حقوق الإنسان والتخلص من الصداع الذى تسببه مرة واحدة وإلى الأبد وهو الوهم الذى رتب آثارا جانبية خطيرة وطويلة المدى على قطاعات حيوية أخرى وتسبب فى عرقلة عملها بل وشل حركتها فى بعض الأحيان.
باحثة مصرية