حلم اللحاق بأسراب الإِوَزِ الآسيوى الطائر - نبيل مرقس - بوابة الشروق
الأربعاء 15 مايو 2024 11:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حلم اللحاق بأسراب الإِوَزِ الآسيوى الطائر

نشر فى : السبت 16 أبريل 2022 - 8:15 م | آخر تحديث : الإثنين 18 أبريل 2022 - 10:28 ص
”هذا وتتأكد أهمية الاستراتيجية العامة للوزارة طوال مدة إدارتها لتلك المهام القومية فى القدرة على التفاعل مع معطيات القرن الجديد والتواؤم مع متغيراته ومتجدداته، وذلك فى منهج عملها.. لتتبوأ مصر وفق تلك التوجهات والسياسات الحاكمة والقرارات الرشيدة، مصاف «الدول النشطة» التى استوعبت حركة التاريخ واتجاه العصر بما يحقق انطلاقتها الكبرى نحو نهضةٍ شاملة“.
كمال الجنزورى، مصر والتنمية، دار الشروق 2013.
• • •
فى 4 يناير 1982 تم تشكيل الوزارة الأولى فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك برئاسة د/ فؤاد محيى الدين. وفى أول اجتماع للمجموعة الاقتصادية الجديدة مع مبارك، المتطلع وقتها لتأسيس شرعية جديدة للنظام الذى تعرضت شرعيته للاهتزاز والتآكل إثر اغتيال الرئيس السادات بأيدى عددٍ من أفراد القوات المسلحة، طرح وزير التخطيط الجديد– د/ كمال الجنزوري ــ رؤيته لترميم شرعية النظام فى مواجهة الصعوبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الهائلة التى تواجهه. واقترح الإعداد لمؤتمر اقتصادى تشارك فيه جميع الأطراف السياسية المعنية بمستقبل الوطن على اختلاف انتماءاتها الأيديولوجية، بغرض التوافق على كيفية إعادة البناء الاقتصادى للبلاد وبعث الحياة فى المسار التنموى الذى تعثر منذ هزيمة يونيو 1967. وطرح الجنزورى تصوره عن كيفية البدء فى إعداد ملامح رؤية مستقبلية تستشرف تحقيق النهضة المصرية الشاملة وتتضمن خطة قومية طويلة المدى/ عشرينية، وخطط أخرى متوسطة المدى/ خمسية، وخطط قصيرة المدى/ سنوية. واختار الجنزورى فى دلالةٍ رمزية د/ إبراهيم حلمى عبدالرحمن الأب المؤسس لتجربة التخطيط المصرية والمشرف على إعداد أول خطة خمسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية (1960 ــ 1965) رئيسا لذلك المؤتمر. كما تم اختيار عددٍ من الرموز السياسية والفكرية من الذين شاركوا وساندوا «التجربة التنموية» فى مصر الستينيات (أمثال د/ على الجريتلى، د/ عبدالجليل العمرى، د/ عبدالمنعم القيسونى، د/ اسماعيل صبرى عبدالله، الأستاذ أحمد بهاء الدين) للإسهام فى جلسات المؤتمر، وذلك فى محاولةٍ جادة لاستدعاء زخم تلك التجربة السياسية/التنموية التى لم تكتمل. والتى قامت على أكتاف قيادة كاريزمية نجحت فى حشد الجماهير وتعبئة موارد الدولة المصرية خلف رؤية تنموية مستقلة تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وتقوم على استغلال كل منابع الثروة الطبيعية والبشرية فى البلاد فى شكل خطة شاملة تستند إلى أشكال محددة من التدخل والإشراف من جانب الدولة. وقد ساند التجربة عددٌ من الكوادر الذين يمثلون «بيروقراطية عبدالناصر التنموية»، من القادرين على الإبداع المؤسسى وتجديد دماء الجهاز الإدارى المصرى وتحقيق الغايات التنموية الطموح لدى عبدالناصر (أمثال زكريا محيى الدين وثروت عكاشة وعزيز صدقى وابراهيم حلمى عبدالرحمن وصلاح الدين هدايت وسليمان حزين ومحمد حسنين هيكل ومحمد فائق وحافظ اسماعيل ومحمود يونس وصدقى سليمان)، إلى جانب القيادات العسكرية الحريصة على إعادة تأهيل وتطوير أداء المؤسسة العسكرية المصرية بعد خسائرها الفادحة فى حرب يونيو 1967 (أمثال محمد فوزى وعبدالمنعم رياض ومدكور أبو العز وفؤاد أبو ذكرى وسعد الدين الشاذلى). وقد استندت هذه التجربة التنموية الناصرية إلى وجود محيطٍ إقليمى داعم متمثل فى حركة القومية العربية بزعامة عبدالناصر، إلى جانب تحالف دولى متمثل فى حركة التحرر الوطنى لدول العالم الثالث وكتلة دول عدم الانحياز بزعامة تيتو ونهرو وعبدالناصر، أسهمت جميعا فى صناعة دورٍ محورى لمصر على النطاقين الإقليمى والعالمى.
جاء الجنزورى إلى قيادة معهد التخطيط القومى مديرا للمعهد ونائبا لوزير التخطيط فى 13 ديسمبر 1977، ممثلا لجيلٍ جديد من رواد التخطيط فى مصر وذلك بعد الجيل الذهبى الذى يمثله ابراهيم حلمى عبدالرحمن وإسماعيل صبرى عبدالله ومحمد محمود الإمام الذين ساندوا المشروع السياسى/التنموى لعبدالناصر من منطلقاتٍ فكرية تنتمى بدرجاتٍ متفاوتة إلى اليسار. وبرغم انتماء الجنزورى تاريخيا إلى هذا المشروع ــ من منطلق ولائه للدولة الوطنية المصرية ــ إلا أنَ تصعيده من موقعه كمحافظٍ لبنى سويف جاء بعد عامٍ من انتفاضة الخبز فى 18 و19 يناير 1977 وبعد شهرٍ واحد من زيارة الرئيس السادات التاريخية إلى القدس فى 19 نوفمبر 1977، وقد أدى كلاهما إلى تصاعد الصدام بين الرئيس السادات والقوى اليسارية والناصرية فى الشارع السياسى وداخل أجهزة الدولة. وكان معهد التخطيط القومى على رأس تلك الأجهزة المطلوب تعديل مسارها من التوجه الاشتراكى إلى التوجه الرأسمالى الليبرالى الذى بدا العالم منساقا نحوه بقوةٍ فى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضى (بظهور مارجريت تاتشر ورونالد ريجان وميخائيل جورباتشيف على المسرح العالمى، وتحقق نبوءة «نهاية التاريخ» التى بشَر بها فرانسيس فوكوياما باسقاط الاتحاد السوفيتى وتفكيك الكتلة الاشتراكية). مما أعطى الانطباع وقتها أن الجنزورى مُكَلَفٌ من قبل الرئاسة بتصفية جيوب الفكر الاشتراكى المتحصنة داخل معهد التخطيط القومى.
• • •
يتضح لنا من كتاب «مصر والتنمية» أن فِكْرَ الجنزوري– ما بعد تعثر المشروع التنموى الناصري ــ يقوم على إيمانٍ واضح بدور الدولة الحاكم فى الاقتصاد المختلط وعلى توجهٍ حاسم نحو إعادة صياغة مبادئ وأدوات التخطيط المركزى لتلائم أشكال وأدوات التخطيط التأشيرى المتوافق مع اقتصاد السوق الحرة (والمستخدم فى فرنسا واليابان والصين)، بالإضافة إلى حرصٍ دؤوب على التنمية العمرانية المخططة للخروج من الوادى الضيق إلى رحاب الأرض الصحراوية الممتدة. وهو ما جعله يقترب فكريا وعمليا من التجارب الآسيوية الرائدة التى ظهرت فى اليابان والصين وشرق آسيا فى النصف الثانى من القرن العشرين. تلك التجارب التنموية التى أشارت إليها ورقة فاتح غلاب وآخرين تحت عنوان «تجربة بلدان شرق آسيا فى التنمية وتعزيز الثروة.. التجربة الصينية» المنشورة فى مجلة اقتصاديات الأعمال والتجارة فى مارس 2019، بوصف «أسراب الإِوَزِ الطائر» على حد تعبير الاقتصادى اليابانى أكاماتزو كانامى. وذلك بدءا باليابان باعتبارها «القائد» فى مقدمة كل الأسراب الآسيوية، ويليها كوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج وسنغافورة فى السرب الأول، ثم ماليزيا وتايلاند وإندونيسيا فى السرب الثانى، وانتهاء بكمبوديا وفيتنام فى السرب التنموى الثالث. ويشير الجنزورى فى كتابه المذكور إلى هذه التجارب الآسيوية الرائدة بتعبير «الدول النشطة»، والتى زار منها فى رحلته الآسيوية ــ كرئيسٍ لوزراء مصر فى عام 1997ــ ثلاث دول وهى الصين وماليزيا وسنغافورة. وقد عاد منبهرا ومشيدا بما رآه، وحاول جاهدا أثناء فترة رئاسته الأولى لمجلس الوزراء (من 4 يناير 1996 إلى 5 أكتوبر 1999) أن يجسد «حلمه التخطيطى» بدولةٍ تنمويةٍ نشطة على الطراز الآسيوى تتفق مع حركة التاريخ واتجاه العصر، وذلك من خلال تبنيه ستة مشروعات تنموية عملاقة طويلة المدى (منخفض توشكى، شرق العوينات بالصحراء الغربية، شرق التفريعة ببورسعيد، المنطقة الاقتصادية الخاصة بشمال غرب خليج السويس، المشروع القومى لوادى التكنولوجيا شرق قناة السويس، وأخيرا توصيل مياه النيل إلى سيناء من خلال ترعة السلام).
• • •
وفى سياق حماسى الشخصى لتجربة التخطيط والتنمية المصرية وتفاعلا مع ما طرحه الجنزورى فى كتابه عن الدور المحورى لوزارة التخطيط فى تبنى «حلم الخروج» من الوادى القديم إلى الصحراء، إضافة إلي إعجابي بنظام "اقتصاد السوق شبه المخطط" المطبق في اليابان والمحكوم بالقيم الآسيوية (التي تجعل الفرد في خدمة "قيمة النفع العام") الذي طرحه Chalmers Johnson فى كتابه الشهير MITI and the Japanese Miracle. دفعنى ذلك كله إلى إجراء المقارنة بين دور وزارة التخطيط فى التجربة التنموية المصرية مع الدور التاريخى لوزارة التجارة الدولية والصناعة اليابانية (MITI) فى صياغة الرؤية الاستراتيجية للتصنيع فى التجربة التنموية اليابانية. وقد أدركت بعدها ما تثيره المقابلة بين «المعجزة اليابانية» (التى استطاعت خلال ثلاثين عاما بعد الحرب العالمية الأخيرة أن تضاعف ناتجها القومى خمسة وخمسين ضعفا، وأن تستحوذ على عشرة فى المائة من النشاط الاقتصادى العالمى يقوم على تشغيلها كتلةٌ من البشر لا يتجاوز تعدادهم ثلاثة فى المائة من سكان هذا العالم ويشغلون مساحة من الأرض لا تزيد على ثلاثة أعشار سطح الكرة الأرضية) و«التعثر التنموى المصرى» منذ يونيو 1967 وحتى الآن، من أسى وحزنٍ عظيمين لدى كل من ينتمى إلى أرض مصر.
ويكشف لنا تعثر الحلم التخطيطى الجسور لكمال الجنزورى عن غياب التوافق بين الحلم وصاحبه من ناحية، وبين من يمثلون ــ وقتها ــ «رأسمالية المحاسيب» و«متعهدى التوريث» الذين أحكموا قبضتهم على نظام مبارك فى الفترتين الرئاسيتين الأخيرتين من حكمه. وأرى ــ من وجهة نظرى ــ أن ذلك التعثرُ يُعَرِى أيضا معضلة الدولة المصرية منذ صدور ورقة أكتوبر عام 1974، فى انتقالها المفاجئ من الاقتصاد المخطط مركزيا إلى آليات السوق الحرة دون أن تعتنى بإعادة صياغة أدواتها وهياكلها المركزية من أجل تحقيق «التآزر الخلاق» بين مؤسسات الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدنى الجديد وجموع الناس العاديين، وذلك فى مواجهة التحديات التنموية العاتية التى تُكَبِلُ مجتمعنا المصرى وتمنعه ــ حتى هذه اللحظة ــ من الانطلاق المأمول. وهو ما يجعلنا نلتفت باهتمام إلى أطروحة Mariana Mazzucato فى كتابها البديع الصادر أخيرا، والذى يتضمن تصورها عن كيفية التحول من «رأسمالية تعظيم الربح» إلى «رأسمالية النفع العام». ففى صفحة 6 من كتابها Mission Economy (الصادر عن Allen Lane عام 2021) تقول: «.. علينا أن نخلق قنوات التواصل الفَعَالْ مع مصادر الإبداع عبر جميع أرجاء المجتمع، ونعيد التفكير فى كيفية صناعة السياسات وآليات إدارة حقوق الملكية الفكرية واستخدام البحث والتطوير بما ينشر القدرة على الابتكار فى الجامعات والإدارات الحكومية والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدنى. وهو ما يعنى استعادة هدف «النفع العام» فى قلب السياسات الاقتصادية بحيث تصبح موجهة بالكامل لتحقيق النفع لعموم المواطنين، وذلك من خلال تحديد غايات تنموية تتصل بمصالح الناس العاديين وتحركها دوافع «تحقيق النفع العام» قبل «تعظيم الأرباح». مع أخذ مصالح جميع المواطنين المعنيين من الطبقة العاملة وسائر مكونات المجتمع فى الاعتبار، بدلا من الاقتصار على مصالح حاملى الأسهم الكبار».
.. ومازالت أصداء «حلم الجنزورى» تتردد فى توشكى، وشرق العوينات، وشرق التفريعة، وشمال غرب خليج السويس، ووادى التكنولوجيا بالإسماعيلية، وترعة السلام بسيناء.. تدعونا جميعا للتفكير فى كيفية نهوض مصر من عثرتها الطويلة، لتلحق بأسراب الإوزِ الآسيوى الطائر!
نبيل مرقس باحث بمعهد التخطيط القومي (سابقاً)
التعليقات