عبقرية الإعلام فى مقابل عبقرية المكان - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 6:29 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عبقرية الإعلام فى مقابل عبقرية المكان

نشر فى : السبت 16 مايو 2009 - 6:47 م | آخر تحديث : السبت 16 مايو 2009 - 6:47 م

 مدينة مساحتها أقل من عشرين كيلومترا مربعا، يسكنها سبعون ألف نسمة. (أقل من نصف تعداد طلبة جامعة القاهرة). يحكى تاريخها المديد أنها ظلت على مدى الزمن قرية صغيرة على البحر الأبيض مثلها مثل عشرات الآلاف من القرى على المتوسط يسكنها صيادون فقراء وكهنة. بقعة مظلمة لا قيمة لها. ماذا فعلت هذه المدينة كى تصبح من أشهر مدن العالم؟.. كيف أصبح شارع «لاكروازيت» المطل على شواطئ تفتقر إلى الجمال مقارنة بأى شاطئ من شواطئ مرسى مطروح على سبيل المثال، أشهر من أهم شوارع روما وأثينا وموسكو وبرلين؟

أتساءل كلما ذهبت إلى مدينة «كان» أى عبقرية إعلامية جعلت من هذا المكان ما أصبح عليه؟.. يقال إن البداية (باعتبار أن لكل قصة رحم تولد منه) أن اللورد هنرى بروغام الكاتب ورجل السياسة البريطانى الشهير أقام فترات من حياته فى منتصف القرن التاسع عشر فى «كان» وجذب اهتمام الارستقراطية البريطانية لهذه المنطقة، التى بدأت تتوافد هربا من أجواء لندن الملبدة، وبدأت فى بناء منازل وقصور فاخرة للسكنى فى فصل الشتاء. ولكن هذه القصة تشبه النكتة التى تحكى عن سبب ثراء أوناسيس: يحكى أن أوناسيس بدأ البيزنس ببيع تفاحة ثم تفاحتين وبعد شهر من الكد استطاع بعملية تراكم رأسمالى بيع خمس تفاحات.. وفى النهاية دخل فى عملية مشبوهة ربح منها أول مليون دولار فى خبطة واحدة وبدأت قصة ملايينه. فموضوع اللورد البريطانى هو تفاحات أوناسيس. ولكن أين العملية المشبوهة التى جعلت الكروازيت حلما يداعب كل حذاء يسير على الكرة الأرضية؟

العملية فى حالة «كان» بدأت واقعيا بتطور علم التسويق كعلم مستقل كرد فعل للفكر الاقتصادى الكلاسيكى فى القرن التاسع عشر، والذى فشل فى حل المشكلات الناتجة عن التطور السريع للاقتصاد الرأسمالى. وجاءت الأزمة المالية لعام 1929 لتعصف بكل الأفكار الاقتصادية وينطلق علم التسويق ويتطور بسرعة فى محاولة لاجتياز الأزمة المالية والفكرية للاقتصاد العالمى. والتسويق فى عجالة هو مجموعة العمليات أو الأنشطة، التى تعمل على اكتشاف رغبات العملاء وابتكار مجموعة من المنتجات أو الخدمات، التى تشبع رغباتهم وتحقق للمؤسسة ــ المدينة ــ الدولة الربحية خلال فترة مناسبة. وتطورت فى هذه الحقبة الماركات الفرنسية فى مجالات العطور والملابس والنبيذ وغيرها تطورا غير مسبوق. وبدأت مدينة «كان» تنهل من علم التسويق داخل منظومة خلق فكرة «الكوت دازور» الشاطئ الآزورى. وهو فى الحقيقة شاطئ معظمه صخرى واللون الآزورى نادر الحدوث وسط أمطار وغيوم فى فترات طويلة من العام. وبدأت فى الثلاثينيات فكرة إنشاء مهرجان للسينما لتسويق المدينة سياحيا لجذب السياح من مختلف بقاع العالم، وتحدد عام 1939لبدء هذا المهرجان السينمائى السياحى الترفيهى، وبدأت معه عجلة التسويق الإعلامى للمدينة. ولكن كان لأدولف هتلر رأى آخر فتأجل المهرجان ليبدأ لأول مرة يوم 20 سبتمبر عام 1946فى احتفالية ثقافية تضافرت فيها كل ما وصل إليه علم التسويق من تقدم. نجح المهرجان وتطور تدريجيا حتى تحول إلى مهرجان سينمائى محترف بإنشاء سوق الفيلم عام 1959. وأمام هذا النجاح الكبير يبدأ المسوقون فى ابتكار العديد من التظاهرات الثقافية والعروض والمنتديات والمؤتمرات وسط هالة، وهى الشاطئ الآزورى، وبدأ التعامل مع «كان» كماركة مسجلة مثلها مثل «شانيل» و«بيير كاردان» يجب تلميعها عبر الوسائط الإعلامية فى العالم كله. وبدأ العالم يعرف لأول مرة ما أطلق عليه لاحقا سياحة البيزنس. وفى عام 1949وأمام نجاح مهرجان السينما تم بناء قصر المهرجانات والمؤتمرات فى شارع الكروازيت، وعلى البحر مباشرة لاستقبال عروض وضيوف المهرجان. وكان لابد من خلق أفكار جديدة لبقية العام.

فى الشهر الماضى شهدت «كان» مهرجان التليفزيون «ميب.تى.فى»، الذى تحضره شركات من 141 دولة. هذا الشهر يبدأ مهرجان السينما، وفى الشهر القادم هناك مهرجان الأفلام الدعائية ومؤتمر تكنولوجيا الدفاع وعيد الموسيقى وسيمبوزيوم الماء والصالون الدولى لمحترفى ألعاب الفيديو جيم. هذه أمثلة سريعة لإعطاء فكرة للقارئ عن عبقرية فن التسويق. فى شهر يوليو على سبيل المثال هناك فى «كان» ستة عشر حدثا ثقافيا أو فنيا أو سياحيا أو علميا مثل الشواطئ الالكترونية ومهرجان فنون الألعاب النارية ومهرجان موسيقى الجاز وغيرها. فى شهر أغسطس هناك تسع عشرة تظاهرة. وتحولت العناصر المكونة لأى مدينة هى الأخرى فى «كان» إلى ماركات عالمية. فالفنادق والمطاعم والمقاهى والشوارع والمحال كلها تحمل نفس الأفكار وتعتنق نفس المعتقدات التسويقية. فلا يمكن أن تحجز مقعد فى المطعم الفلانى لأنه محجوز طوال العام، ولو استطاع أحد أن يحصل على الشرف السامى ويضع مؤخرته على أحد مقاعده فهو إذن من الكبار. وكل مرة أذهب فيها إلى مدينة «كان» أستمع إلى نميمة اجتماعية أكثر مما أستمع عن التظاهرة الثقافية، الذى تكبدت مشقة السفر لحضورها. ففلان مقيم فى الفندق العلانى لأنه رفض أن يقيم فى الفندق التلتانى. أما الأستاذ سين فقد أمضى سهرة الأمس فى اليخت، الذى يمتلكه صاد. وفى ليلة دعيت من شركة إنتاج فرنسية إلى مطعم فمنحونى كارتا لكى أستطيع الدخول من البوابة، وفوجئت برجال عمالقة يقفون على البوابة الخارجية لكى يمنعوا أى متطفل من الاقتراب من بوابة الجنة. هى جنة التسويق ونجاح منقطع النظير للإعلام فى اللا مكان واللا تاريخ.

خالد الخميسي  كاتب مصري