يا مؤرخى مصر: اتحدوا - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 10:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يا مؤرخى مصر: اتحدوا

نشر فى : الخميس 16 سبتمبر 2010 - 9:45 ص | آخر تحديث : الخميس 16 سبتمبر 2010 - 9:45 ص

 لا يمكننى بطبيعة الحال أن أرتدى ثوب المؤرخ أو الناقد الفنى، ولكن طوفان المسلسلات التليفزيونية الذى أغرقنا فى شهر رمضان المنصرم دفعنى للتعليق على محتوى عدد من هذه المسلسلات من منظور محدد، فقد تعرض عدد لا بأس به من الأعمال الدرامية التليفزيونية التى قدمت لنا فى ذلك الشهر لمراحل مختلفة من تاريخ مصر ومحيطها الخارجى، بدءا بالعصر البطلمى (كليوباترا)، ومرورا بالعصر المملوكى فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر (شيخ العرب همام)، ثم العقود الأخيرة فى حياة دولة الخلافة العثمانية فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (سقوط الخلافة)، وأخيرا تاريخ مصر المعاصر بدءا من أواخر عشرينيات القرن الماضى وحتى الآن (الجماعة)، أو فى الربع الثانى من القرن العشرين (الملكة نازلى).

ولأن هذه الأعمال ليست تسجيلية، ولأن التفاصيل بشأن المراحل التى تناولتها قد تكون غير كافية، ولأن مقتضيات العمل الدرامى تتطلب عادة إضافة شخصيات وهمية يكون لها دور محدد فى توصيل رسالة هذا العمل، فقد ترك هذا للعديد من كتاب هذه المسلسلات مساحة للحرية أفضت أحيانا إلى إبداع حقيقى (سقوط الخلافة)، واتهمت أحيانا أخرى بتشويه المراحل والشخصيات التاريخية التى تناولتها (شخصية اللص المصرى الذى أحبته الملكة كليوباترا فى مرحلة من حياتها).

تبدو أسباب هذه الاتهامات عديدة، منها أن هذه الأعمال الدرامية تتعرض لشخصيات لا تزال لبعضها على الأقل امتدادات أسرية حتى الآن تعترض رموزها على الطريقة التى تم تناول تلك الشخصيات بها، وأبرز الأمثلة هنا اعتراض أحفاد «شيخ العرب همام» على التفاصيل التى رسمت لشخصيته فى العمل التليفزيونى، وابن مؤسس جماعة الإخوان المسلمين على التفاصيل التى وردت بشأن والده فى مسلسل الجماعة.

وقد أصبح مألوفا على أى حال، أن يعترض أقارب أى شخصية تقدم فى عمل درامى على الشاشة على الطريقة التى تم تصوير هذه الشخصية بها. ومن أسباب هذه الاتهامات أيضا أن العمل الدرامى ربما يكون قد جافى الحقيقة فعلا ولو فى بعض مواضعه (كما اتهم مسلسل الجماعة)، ومن هذه الأسباب كذلك ما هو فنى يتعلق بتماسك السيناريو أو مدى ملاءمة الأزياء والديكورات المستخدمة فى العمل للمرحلة التاريخية التى تناولتها (كليوباترا).

يفضى ما سبق إلى مناقشة مشكلة مهمة تتعلق بصياغة العقل والوجدان المصريين، ففى عصر سيادة التليفزيون وسيطرته على وقت فراغ المشاهد، وارتفاع نسبة الأمية، وتردى تعليم التاريخ سيصبح التليفزيون بذلك مصدرا مهما إن لم يكن الأهم بالنسبة للمواطن العادى يستقى منه المصريون معلومات ورؤى حول تاريخهم وشخصيات محورية فى هذا التاريخ، والطريف أو الخطير أن مدى تقبل المشاهد لهذه المعلومات والرؤى قد يتوقف على اعتبارات غير موضوعية من منظور علم التاريخ، كجودة العمل الدرامى وإتقانه، أو «نجومية» القائم بدور هذه الشخصية التاريخية أو تلك، فكما يتعاطف مشاهد السينما مع اللص أو القاتل إذا كان القائم بدوره هو نجمه المفضل يمكن أن يحدث الأمر نفسه مع الشخصيات التاريخية التى تتناولها الدراما التليفزيونية.

ألم تتحسن صورة الملك فاروق كثيرا لدى البعض بعد السيناريو المبهر والتنفيذ الخلاب والأداء الرائع لشخصية الملك من قبل النجم السورى تيم الحسن على الرغم مما شاب المسلسل من قصور فى نهج التناول؟ ألا يمكن أن يكون بعض المشاهدين قد تعاطف مع الملكة نازلى، وراجع تصوراته بشأنها على الرغم مما شاب تاريخها من وقائع مؤكدة لمجرد أن «نجمة الجماهير» قد قامت بدورها؟ ألم يلتف المشاهدون حول شخصية «شيخ العرب همام» بسبب عبقرية أداء يحيى الفخرانى بغض النظر عن مدى الدقة فى تناول هذه الشخصية التاريخية؟ ألا يمكن التنبؤ والأمر كذلك بأن «محمد على» سوف يقفز إلى العلا مع الأداء المتوقع من قبل هذا النجم المبدع لشخصيته فى رمضان القادم؟
لكن المسألة لا تتوقف عند مستوى الشخصيات التاريخية فحسب، وإنما تمتد لتصل إلى تشكيل «الرؤى».

ألم يقدم «شيخ العرب همام» رؤية محددة حول أمن مصر الوطنى وطريقة تحقيقه، ويتضمن إسقاطات مهمة حول الدور الخارجى فى تقويض هذا الأمن؟ ناهيك عن أن طليعة تحقيق هذا الأمن كانت من «عرب» الهوارة فى صعيد مصر.

ألا يمكن أن يتعاطف المشاهد مع جماعة الإخوان المسلمين أو يتبنى موقفا رافضا لها بعد المعالجة التى قدمها وحيد حامد فى مسلسله عن «الجماعة»؟ ألا يمكن أن يغير المشاهد رأيه إيجابا فى فكرة الخلافة الإسلامية بعد أن تم تسليط الضوء على الموقف المبدئى الصارم من قبل السلطان عبدالحميد ضد اغتصاب اليهود أرض فلسطين؟ وألا يمكن كذلك أن يزداد حماس هذا المشاهد للدور التركى بعد النهاية الرمزية لمسلسل سقوط الخلافة؟ (مقاتل عربى من يافا كان حارسا للسلطان عبدالحميد يقود طابورا من الفرسان رافعا العلم التركى وصوت المعلق يقول: تقدم أيها البطل، فإن الأمور لم تحسم بعد). بل إن مسلسل «سقوط الخلافة» أيضا قد قدم رؤى مهمة حول زيف الدور الخارجى فى التطوير الديمقراطى، واستخدام الديمقراطية ذريعة للتدخل الخارجى، وتمزيق الدول موضع المطامع الخارجية أشلاء.

والظاهرة الأخطر مما سبق فيما يتعلق بإعادة صياغة العقل والوجدان المصريين أن بعض «نجوم» المسلسلات أفتى بغير علم فى قضايا تاريخية شائكة كنوع من التماهى بين النجم والشخصية التاريخية التى اضطلع بدورها، فها هى الفنانة نادية الجندى تنفى ببساطة شديدة وقائع أكيدة فى حياة الملكة نازلى فى أحد حواراتها الصحفية، وتتحدث فى موضع آخر عن ظلم رجال الثورة (أى ثورة يوليو!) لها، مع أن صورة الملكة نازلى لدى الشعب المصرى بل وأغلب الظن لدى ابنها الملك فاروق نفسه والأسرة الملكية بعامة محسومة قبل قيام الثورة بكثير. لكننا الآن «نشاهد» التاريخ ولا نقرأه، وقد يكون من السهولة بمكان أن يُحقَن عقل المواطن العادى بزيف لا مثيل له.

المشكلة إذن أننا لسنا أمام مسلسلات تاريخية يعرضها التليفزيون وتمضى لحال سبيلها، وإنما نحن إزاء عملية بدأت تأخذ شكلا منتظما وإن ظل عشوائيا للمشاركة فى صياغة العقل والوجدان المصريين، خاصة أن معظم المسلسلات السابقة حظى بأعلى نسبة مشاهدة. وإذا كنا نقول إن الحرب لا يجب أن تترك للعسكريين وحدهم، فكيف يكون الحال لو تُرك التاريخ لكتاب المسلسلات التليفزيونية ونجومها مع كامل الاحترام لمعظمهم وعلى رأسهم المبدع يسرى الجندى إذ قدموا أكثر من عمل رفيع المستوى؟ لكن المسلسلات بطبيعتها لا تصلح وحدها مصدرا لتعليم التاريخ، ناهيك عن أن تكون المصدر الأساسى للمواطن العادى فى ظل العوامل التى سبقت الإشارة إليها، وقد يقال إن الحل فى الرقابة التاريخية لمحتوى هذه المسلسلات، وقد لجأ بعضها بالتأكيد إلى مشورة تاريخية علمية، لكن هذا لم يكن كافيا.

ولذلك فإننى أعتقد أن جماعة المؤرخين المصريين والتى تضم رموزا عديدة لمؤرخين أجلاء مدعوة للتفكير فى هذه الظاهرة التى تتعلق بإعادة صياغة العقل والوجدان المصريين بوسائل أكثر جاذبية وتشويقا من الكتاب الرصين، وإن تكن بالتأكيد أقل دقة منه بكثير، ولعل «الجمعية التاريخية المصرية» تضيف إلى إنجازاتها الاضطلاع بهذه المهمة أملا فى التوصل إلى «دستور» يُسترشد به فى هذا الأمر الذى قد يستخف به البعض مع أنه ليس بالهزل.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية