معجزة الصين بين النحل والقرود - مدحت نافع - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 2:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

معجزة الصين بين النحل والقرود

نشر فى : الإثنين 16 سبتمبر 2019 - 10:45 م | آخر تحديث : الإثنين 16 سبتمبر 2019 - 10:45 م

هل النحل أكثر سعادة من القرود؟ سؤال له دلالة، فإن كانت أمم النحل التى أتقنت تقسيم العمل، وأقامت نظاما فريدا متكاملا يسمو به شأن الخلية على مصلحة الفرد، هى أسعد حالا من قطعان القرود التى تقفز باستمرار، وتنتقل بين الأشجار بسلوك يبدو عشوائيا، ولكنه على الرغم من ذلك مضرب المثل فى حالة الانتشاء، بل وهو أيضا منافس لحال النحل فى الأمثال الدالة على النشاط والحركة المتواصلة.. فلن نقف حائرين طويلا أمام مفصل هام لمقال هذا الأسبوع.
لكن مع الأسف هذه مقارنة لا تستقيم مع سنة الاختلاف التى فرضها الله على الكون، بل وإن نطق النحل والقرود فلن يعطوك إجابة عن سؤالك، لأنهم جبلوا على نمط لا يعرفون سواه، واستقر فى جيناتهم حتى صار فطرة مطبوعة فى نظام تشغيل كل كائن من تلك الكائنات.
السعادة هى غاية لا يدركها إلا من ينشدها باستمرار، ولا يعرفها من ظن أنه يرفل فيها. والبحث عن الكمال هو أعلى درجات الكمال البشرى، لأن صفاته عصية على أن تدرك أو تجتمع فى مخلوق لا يملك لنفسه من دون خالقه شيئا.. تلك مقدمة أراها ضرورية لحديثنا اليوم عن نموذج النهضة الصينية الحديثة التى تناولتها آلاف الأقلام ومازال فك طلاسمها بعيد المنال.
***
لا أعرف أحدا من ذوى الألباب تهيأت له أسباب التعامل مع الصين فى ثوبها الجديد، إلا امتحن ضميره ثوابت المنطق التى نشأ عليها، وحيره أمر أمة تغلبت فى سنوات معدودة على تحديات الفقر ونقص الموارد عن إشباع حاجات البشر، وذلك فى غيبة النموذج الرأسمالى وإطلاق الحريات والأسس الديمقراطية التى نألفها!.
السؤال دائما كيف نجحت الشمولية فى الصين وسقط بناؤها فى كل دول العالم؟ والإجابة ليست سهلة عزيزى القارئ، فهى مطمورة بين ألف وأربعمائة مليون مواطن صينى يعملون فى حركة دائبة كالنحل فى خلاياه، ولا يهتمون كثيرا بحرية تعبير الفرد عن نفسه، إيمانا منهم بأن الأمة تعبر عن نفسها ككتلة واحدة لا تعرف القسمة على عدد السكان، ولكنهم على الرغم من ذلك يدركون أهمية الشورى وإعمال العقل فى بنوك أفكار الحزب الواحد الذى تعددت لجانه وانتشرت شرقا وغربا، لتصعد فى سلاسة برؤى القواعد الحزبية إلى دوائر صنع القرار، ثم إلى متخذه الذى لا يعلو صوت فوق صوته متى اتخذ قراره وأصبح ملزما للجميع.
هنا يأتى دور سيادة القانون والذى من أجله تشتد قبضة التحكم Control على جميع المواطنين حتى تظن وأنت تسير فى شوارع العاصمة «بكين» أنك مراقب فى دولة الأخ الأكبر كما صورها «جورج أورويل» فى رائعته 1984، مع ذلك فالصورة الرمادية التى تنطبع فى مخيلتك وأنت تقرأ عن دولة «أورويل» تختلف عن بكين اليوم فى ثوبها الملون القشيب، باستثناء قليل من الرمادية التى صنعتها مداخن المصانع العاملة بالفحم، والتى بدأت الصين فى التعامل معها بحسم وبخطة انخفضت معها الانبعاثات على نحو شهد به المهتمون بظاهرة تغير المناخ، لكنه ضباب كالذى عرفته لندن قلعة الرأسمالية الأولى، ولم يغير من ألوان بهجة العيش شيئا، فالناس فى الصين يملكون الرفاهة ويقدسونها فى إشباع حاجاتهم الأساسية والكمالية، يتسابقون على شراء الماركات العالمية فور نزولها الأسواق، يعرفون قيمة الملكية الفردية ويقدسونها، ويشجعون القطاع الخاص على اقتحام كل الأنشطة، موفرين له وضعا تنافسيا عادلا مع المؤسسات والشركات التى تملكها الدولة.
يقول الرئيس الصينى «شى جين بينج» فى كتابه الأغر الصادر فى مجلدين بكل اللغات الهامة «حول الحكم والإدارة»: «وتجدر الإشارة إلى أن نظام الاشتراكية ذات الخصائص الصينية يتميز بخصائص واضحة وفعالية كبيرة، لكنه ليس فى ذروة الكمال ولا ناضجا كاملا ولا ثابت الشكل، مع التطور المتواصل لقضية الاشتراكية ذات الخصائص الصينية يحتاج هذا النظام إلى الإكمال باستمرار».
ثم يقول فى ذات السياق الذى رسم ملامحه المؤتمر العام للحزب الحاكم فى نوفمبر 2012: «سبب التأكيد على التخطيط العام يعود إلى أن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية هى اشتراكية تحقق التنمية الشاملة. ينبغى لنا أن نمسك بشدة بأول وأهم مهمة وهى تنفيذ الحزب الحاكم لتحقيق نهوض البلاد، لنمثل طلب تنمية قوى الإنتاج المتقدمة فى الصين دائما، ونتمسك باتخاذ البناء الاقتصادى مركزا، وننسق البناء السياسى والثقافى والاجتماعى وبناء الحضارة الإيكولوجية والبناء فى المجالات الأخرى على أساس التنمية الاقتصادية المستمرة».
***
هنا فقط يمكن أن نبدأ فى فهم ما أطلق عليه البعض المعجزة الصينية، فقد كانت النهضة الاقتصادية فى القلب من تلك المعجزة، وقاد خلالها الاقتصاد السياسة بكل حكمة وجسارة، وتأكد بذلك ما سبق أن ذكرته فى مقال لى بالشروق على كون الاقتصاد يهزم السياسة فى كل مرة. الشعب الذى تتحقق له أسباب الرفاهية مع استمرار إحكام ما يعرف بالحكم الرشيد لن يستخدم وقت الفراغ فى محاولة تغيير النظام، بل هو فى عملية سعى دائم ومنافسة شرسة لتحسين أوضاع معيشته، ينشد سعادته باستخدام المقومات والأدوات المتاحة التى كان لها الفضل فى بلوغه الاكتفاء وتحقيقه للفائض.
حينما بسط الحزب الحاكم سطوته على الشعب ووضع سياسة الطفل الواحد للحد من الانفجار السكانى، كان ثمة مقاومة كبيرة وحاجة ملحة إلى وضع الحوافز الإيجابية والسلبية لدعم التجربة، لكن وبعد سنوات من نجاحها واكتشاف بنوك الأفكار الحزبية حقيقة أن المجتمع الصينى بدأ يشيخ، كان من الضرورى إلغاء قيد الطفل الواحد للأسرة، فماذا حدث؟ وجد الشعب نفسه ملتزما ذاتيا بإنجاب طفل واحد لكل أسرة بعدما ذاق حلاوة الرفاهية التى تنعم بها الأسرة الصغيرة مع ارتفاع مستويات الدخول، وبالتبعية مستويات المعيشة، ولا أستبعد أبدا أن تتحرك إدارة البلاد لمنح محفزات لإنجاب الأطفال كما تفعل اليوم دول أوروبا الإسكندنافية وكثير من الدول الغربية التى شاخ هرمها السكانى، بشكل يدعو إلى القلق على استدامة وسلامة المجتمع.
من هذه اللقطة تحديدا يمكنك أن تفهم شيئا مما اقتبسناه عن الرئيس الصينى فى كتابه المشار إليه سابقا، حول التطور الدائم لما عرف بنموذج الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، ذلك التطور الذى يحول دون جمود الدولة وفنائها، وهو ذاته الذى حدا بوزير الصناعة وتكنولوجيا المعلومات الصينى السيد «مياو واى» فى لقاء شرفت بحضوره مع السيد وزير قطاع الأعمال المصرى أن يتحدث بكل ثقة عن أهمية الدور الذى يجب أن يلعبه القطاع الخاص فى نهضة البلاد الاقتصادية والتكنولوجية، وأن الإبداع والتميز والتحرك إلى الأمام مقرون بهذا الشرط! هل كنت أحلم إذ أستمع إلى تلك الكلمات من أحد أهم وزراء دولة الصين «الشيوعية» (كما نعرفها). هناك إذن من يجلس فى الغرف المغلقة يدير حوارا «ديمقراطيا» لا نفاق فيه لبناء وتطوير أنساق مختلفة لتحقيق النهضة الصينية، وفى القلب منها نهضة اقتصادية شاملة مستدامة، مؤسسة على قيمة العلم واكتساب المعرفة، فلا عجب أن أدخل مكتبة ضخمة من ثلاثة طوابق فى «بكين» فيخنقنى الزحام، بينما أستمع فى ملل إلى صفير الرياح فى مكتباتنا الخاوية على عروشها بمصر!.
***
لا عيب أن تكون مقلدا فى صباك إذا حملك إدمان التقليد على الإبداع والتطوير. هب مثلا أن الرسام العظيم «فان جوخ» أبى أن تقلد ريشته ملامح البشر وأحوالهم، ما كان ليصبح أبدا أحد أهم رموز المدرسة الانطباعية فى التصوير. قس على ذلك كل العلوم والفنون، بل إن الإنسان يمشى أولى خطواته مقلدا وينطق أولى كلماته مقلدا.. هذا تماما ما فعلته الصين فى نهضتها الصناعية الأخيرة حتى وصمت السلع الأقل جودة دائما بأنها صينية، واستخدم لفظ «صينى» للتعبير عن كل ما هو مقلد وغير أصيل. لكن سرعان ما اكتسب الصينيون مهارة وإتقانا، وصبوا فوق أعمالهم المقلدة من أرواحهم وثقافتهم وتفضيلاتهم. اليوم يملكون برنامجهم الخاص بالمحادثة والدفع الآلى الذى يستخدم فى جميع التعاملات اليومية wechat ويملكون نظاما خاصا للتواصل الاجتماعى يتفوق عدد مستخدميه (بحكم حجم السوق) على نظيره الأشهر «فيسبوك»، ويملكون مصارف ومصانع وماركات تتحدى فى جودتها ورخص ثمنها (الذى نشأ عن الإنتاج الكثيف) مختلف المنتجات الأوروبية والأمريكية.
صحيح أن حجم الطلب الصينى لا مثيل له، فليس من المعقول أن تعقد مقارنة بين هذه الدولة القارة وبين سواها من الدول الأخرى، لكن «الماء الذى يحمل القارب يمكن أن يغرقه» كما قال الرئيس «شى» فى كتابه عن الحكم والإدارة، والحجم الذى كان يوما ما لعنة الصين أصبح اليوم سبب نعيمها. ولا تنس عزيزى القارئ أنك من حرضنى أولا على المقارنة بين النحل والقرود.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات