أحب الفسنجان والبقلاوة - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 6:25 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحب الفسنجان والبقلاوة

نشر فى : السبت 16 ديسمبر 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : السبت 16 ديسمبر 2017 - 9:35 م

خليط البط والبصل ودبس الرمان والجوز المطحون يذوب فى الفم وينتقل مباشرة تأثيره إلى حيث مراكز النشوة فى المخ، وفى بعض الأحيان يستبدل البط بالدجاج، لكن يبقى إحساس اللذة واحد، واسم الطبق الفارسى نفسه: الفسنجان. هذه الأكلة الإيرانية الشهيرة قد نتذوقها فى موطنها الأصلى أو فى العراق حيث تعرف أيضا بالفسنجون أو فى أحد مطاعم الغربة التى يقيمها أبناء هذا البلد أو ذاك الذين كتب عليهم العيش خارج الديار فاختزلوا الوطن فى بعض الأطباق والموسيقى، ليتمسكوا بالبقية الباقية من ثقافتهم ويكسبوا قوتهم وقوت عيالهم.

مع كل قضمه يتضاءل حجم الاكتئاب والحزن، وأفكر فى حجم التماثل والتباين والتأثيرات المتبادلة بين دول المنطقة، ويستدرجنى الطعم إلى الجغرافيا السياسية والتاريخ، وتمتزج الانطباعات فى فمى وفى رأسى. أتأمل كيف يمكن لطريقة الطبخ أن تشبه سياسات واستراتيجيات الدول، فهى فى النهاية تعكس طريقة تفكير وثقافة، وأحاول تطبيق ذلك على الفسنجان. تسوى الأكلة على نار هادئة جدا كالعديد من الأطباق الإيرانية التى تتميز بطهى الأوانى المحكمة فقد كانت تغلق قديما بقطعة من القماش، وهى طريقة طهى تعتمد على سياسة النفس الطويل كعادة الفرس، كما تعتمد على التوازن الدقيق بين طبيعة الأشياء، لأنه وفقا لمفاهيم الطب التقليدى هناك وفى غيرها من الحضارات القديمة ينقسم البشر والأطعمة إلى ساخن وبارد، ويتنوع الكون ما بين صفات أو أمزجة أربعة: ساخن، بارد، جاف، رطب. الفسنجان مثلا يجمع بين الرمان الذى ينتمى لمجموعة الأغذية الباردة وبين الجوز الذى يعد عنصرا ساخنا، وكذا لحم البط ساخن والأرز البسمتى من الأصناف الباردة التى انتقلت من الهند إلى بلاد فارس فى القرن السادس قبل الميلاد تحت حكم الملك داريوس.

***

الفسنجان وغيره من الأكلات يترجم حجم التداخل والانصهار والتنافس والتصارع بين دول المنطقة، وخاصة بين دولتين شرق أوسطيتين، هما إيران وتركيا، مرتبطتين جدا بالعالم العربى دون الانتماء إليه. فى القاهرة مثلا نطلق على المخللات «طرشي«، وهى كلمة فارسية، وفى مصر خاصة الريف وفلسطين والشام نطبخ الأرز بالفول الأخضر وهو طبق إيرانى بالأساس، طرأت عليه بعض التغيرات كما العديد من الأطعمة. أما البقلاوة، المنتشرة فى كل دول الشرق الأوسط وحوض المتوسط، فتتنازعها أصول وروايات مختلفة، ينسبها البعض إلى الفرس أيضا، ويؤكد الأتراك على حقوق ملكيتها، ويقال إنها انتشرت على هذا النحو فى العصر البيزنطى بفضل التجارة، وإن عدد طبقات العجين المتراصة فوق بعضها البعض كان يصل فى الوصفة الأصلية إلى 33 طبقة، نسبة إلى السن الذى توفى فيه المسيح عليه السلام.

المطبخان الإيرانى والعثمانى اللذان يسيطر عليهما اللونين الأحمر والأصفر، وتاريخ أطباقهما، يعكسان حجم التنافس بين هذين الإمبراطوريتين بل ويلخص سنوات من الحروب المتقطعة بين الشاهات والسلاطين امتدت من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر. ولم يهدأ الحال إلا بتوقيع معاهدة قصر شيرين (شرق كركوك) أو معاهدة زهاب بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية فى مايو 1639، وتعيين الحدود بين الجانبين على أساس الوضع الراهن آنذاك، فأعطت يريفان فى جنوب القوقاز لإيران والعراق للدولة العثمانية. وفى الفترة ما بين 1555 و 1918، وقعت الدولتان على ما لا يقل عن 18 اتفاقية تتعلق بخلافات حدودية، واعترفت تركيا فى منتصف القرن الثامن عشر بانتماء الشيعة للإسلام، وظل قطبى الشيعة والسنة يراقبان بعضهما عن كثب دون أن يدخلا فى صراع محتدم حتى لو لم يخل الأمر من بعض المناوشات، وظلت درجات الكركم والزعفران تلون أيامهما، يتأرجحان بين الساخن والبارد، ويتلمسان طريقهما.

***

فى كل مرة نأكل فيها الكباب أو تنويعات الفسنجان أو البقلاوة نهضم تاريخ لم يمر بسهولة، لكنه صنع ما نحن فيه الآن، وما تمضغه ضروسنا وتلوكه ألسنتنا كل يوم. نهضم نتاج الفتح الإسلامى لإيران فى القرن السابع الميلادى الذى جعل المطبخ الفارسى ينتقل إلى المنطقة بأثرها وحتى إلى تركيا ليؤسس تاريخ الأكل العثمانى، وهو الذى كان قد تأثر أيضا بمطبخ حضارة بلاد الرافدين (أى العراق وسوريا وتركيا، ومن عاش بين نهرى دجلة والفرات، من سومريين وأكراد وآشوريين وبابليين وكلدانيين، إلى ما غير ذلك). نهضم أطباق تطورت على مآدب الخلفاء العباسيين ودون وصفاتها معاصروهم فى كتب للطهى توراثتها الأجيال منذ القرن العاشر الميلادى ونظموا حولها الشعر ليمجد ذكراها، دون أن يكونوا بالضرورة من الطهاة بل كانوا أطباء ونبلاء ووراقون وشعراء وموسيقيون مثل أبى إسحق إبراهيم بن المهدى، أخو الخليفة هارون الرشيد، صاحب واحدة من أقدم مخطوطات الطبخ.

عندما نتذوق كل هذه الأطباق ونتابع حكايتها، مرورا بالبطن ووصولا إلى مراكز المخ، نفهم أكثر ماهية الخلافات الحالية، لكن فى النهاية لا نجد لها معنى، خاصة وأن معدتنا قادرة على الهضم وأن الفسنجان والبقلاوة هى خليط ثرى مما لذ وطاب.

التعليقات