أكلة لحوم البشر - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 9:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أكلة لحوم البشر

نشر فى : السبت 18 مايو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 18 مايو 2013 - 8:00 ص

فى الأسبوع الماضى تناقلت وكالات الأنباء العالمية تقريرا علميا أمريكيا ذكر أن المهاجرين الإنجليز الأول الذين قدموا إلى أمريكا أوائل القرن السابع عشر «اضطروا» لأكل لحوم البشر، بعدما تعرضوا لمجاعة أودت بحياة 80٪ منهم. وذكر التقرير أن الباحثين فى معهد سميثونيان تيقنوا من ذلك، حين عثروا فى مستعمرة قديمة على بقايا عظام لفتاة فى الرابعة عشر من عمرها، وحين قاموا بتحليلها باستخدام التقنية الحديثة وجدوا ان أولئك المهاجرين قاموا بتكسير جمجمة الفتاة للحصول على المخ والتهام لحم الوجه والرقبة، وعقب انتهاء البحث بدأ عرض وجهها بعد إعادة تكوينه فى متحف التاريخ الطبيعى بواشنطن، أما ما تبقى من هيكلها العظمى فقد تقرر عرضه فى موقع اكتشافه ببلدة جيمس تاون فى ولاية فرجينيا.

 

أصل القصة التى تناقلتها وكالات الأنباء أن أول مجموعة من المهاجرين الإنجليز ضمت 104 أشخاص، وأنهم ذهبوا إلى أمريكا عام 1607 وأسسوا هناك بلدة جيمس تاون. إلا أن أعدادهم ظلت تتناقص بمضى الوقت، بحيث لم يبق منهم على قيد الحياة بعد الأشهر التسعة الأولى لهم فى العالم الجديد سوى 38 شخصا. وحين جاء الشتاء الرهيب وهدد البقية الباقية منهم فإن ذلك اضطرهم إلى أكل لحم الفتاة، لكى يبقوا على قيد الحياة.

 

تذكرت أننى طالعت القصة ذاتها فى وقت سابق ولكن برواية أخرى فعدت إلى كتاب الباحث السورى المقيم فى الولايات المتحدة منير العكش، الذى صدر قبل 4 سنوات (عام 2009) تحت عنوان أمريكا والإبادات الثقافية (له كتاب آخر مهم سبق أن أصدره تحت عنوان أمريكا والإبادات الجماعية)، عندئذ وجدته خصص فصلا للموضوع فى الكتاب الأول بعنوان «من يأكل لحم البشر» ــ ولاحظت أنه استهله بعبارتين تقول إحداهما إن «القضاة (الإنجليز) فى القريب العاجل سيقررون أكل لحوم البشر ويجعلونه بديلا طبيعيا لدفن الموتى» ــ وهى منسوبة لوزير الداخلية البريطانى وليم هاركورت الذى شغل منصبه بين عامى 1880 و1885. العبارة الثانية تقول إن الاعتقاد السائد لدى الإنجليز أن أكل لحم الرجل الأسود يقوى الباه ويطيل العمر. وقد قالها أجانانت أوبيسيكير أبرز علماء الأنثروبولوجيا المعاصرين وأستاذ المادة بجامعة برينستون الأمريكية.

 

روى الكاتب انه شهد الاحتفال بالذكرى المئوية الرابعة لتأسيس أول مستعمرة إنجليزية أقامها المهاجرون وأطلقوا عليها اسم جيمس تاون تخليدا لملكهم جيمس الأول. وكانت المنطقة التى استقروا فيها جزءا من إمبراطورية كبيرة للهنود الحمر حملت اسم فيدرالية بوهاتن، التى سكنها 30 شعبا أبادهم المهاجرون عن بكرة أبيهم ولم يبق منهم بعد أقل من قرن أكثر من 600 إنسان. وقد تحدثت مراجع عدة أثبتها الباحث عن ان المجاعة حين حلت بالمهاجرين فإنهم لجأوا إلى أكل جثث الهنود الذين استضافوهم ورحبوا بهم فى البداية. إذ كانوا يقتلونهم، كما كانوا يغيرون على قبورهم فى الليل لينبشوها ويسرقوها ويأكلوا جثثها الطازجة. ثم إنهم راحوا يأكلون جثث موتاهم البيض، حتى إن واحدا منهم ذبح زوجته وأكل لحمها باستثناء الرأس. وقد أشارت بعض الدراسات التاريخية الأمريكية إلى مثل تلك الجرائم، فنشرت جامعة إنديانا كتابا لاثنين من المؤرخين تحت عنوان «قاتل هنود الكرو: ملحمة جونستون أكال الكبد». وذكر المؤلفان أن الرجل أمضى أكثر من عشرين سنة يقتل هنودا من شعب الكرو ويسلخهم ويأكل أكبادهم. ووثقا أكثر من 300 حالة قتل ارتكبها صاحبنا ليرضى شغفه بأكل الأكباد.

 

تحدث الكتاب أيضا عن أن البريطانيين كانوا مهووسين بأكل لحوم البشر فى العصور الوسطى، إلا أنهم ألصقوا التهمة ذاتها بالشعوب التى وفدوا عليها واتهموها بالهمجية. وهو ما حدث لسكان أمريكا وأستراليا الأصليين بل إن التهمة وجهت أيضا إلى الأيرلنديين. الفكرة ذاتها وثقها كتاب آخر أصدرته جامعة شيكاغو فى كتاب صدر باسم «أكل لحوم البشر والقانون العرفى»، خلص إلى أن أكل لحوم البشر كان شائعا لدى الإنجليز فى القرن السابع عشر. لكنه تطور وتعزز مع اتساع رقعة التجارة البريطانية ومع الزحف الاستعمارى إلى كل قارات الأرض.

 

أهم ما أثبته كتاب منير العكش فى هذه المسألة ان أكل لحوم البشر كان عرفا مستقرا لدى البريطانيين فى تلك المرحلة من التاريخ، وهو انطباع يخالف ما أعلنه العلماء الأمريكيون مؤخرا. الذين أكدوا أن ذلك كان سلوكا استثنائيا أملته الضرورات (التى تبيح المحظورات). وهو ما يعد نموذجا للتحيز المعرفى الذى يعلى من شأن الجنس الأبيض وينسب الهمجية والوحشية إلى الشعوب الضعيفة الأخرى. وقد شاء ربك أن يكشف بعض المؤرخين الحقيقة قبل أن يلجأ علماء الأجناس إلى طمسها وتزييفها.

فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.