مُناشدة لُغوية - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مُناشدة لُغوية

نشر فى : الجمعة 18 نوفمبر 2016 - 11:30 م | آخر تحديث : الجمعة 18 نوفمبر 2016 - 11:30 م

تقول الأبحاث والدراسات التى أجريت على تلاميذ صغار من أبناء العرب، إن كثيرهم لا يتقن اللغة العربية وإن بعضهم يجد صعوبة فى التمكن من مبادئها البسيطة، لا فى مصر أو شمال أفريقيا فقط بل على مستوى البلدان العربية كافة. الأسباب متنوعة ومنها وربما أولها أن العربية الفصحى التى يدرسها الأطفال ليست هى التى يستخدمها الآباء فى البيوت والزملاء فى النادى والناس فى الشوارع وعلى لافتات المطاعم والمحال، ولا حتى تشبهها. ليست هى التى تنسكب من أفواه المتحدثين فى وسائل الإعلام وأبطال الأعمال الدرامية ولا هى نفسها التى تُكتَب بها البيانات والحكايات.

***
على مدى شهور ماضية جمعت قصاصات كثيرة لأخطاء لُغوية فجة، وردت كلها على صفحات جرائد ومجلات؛ بعضها يتبع الدولة بصفة رسمية والبعض الآخر يتبعها أيضا وإن بصورة مبطنة؛ لكنها تفوح من سطر إلى فقرة إلى عنوان فلا يخطئها قاصٍ ولا دانٍ. على كل حال لا تهم جهة التبعية كثيرا فمن وسائل الإعلام ما لا يزال فى خانة الاستقلال ولو ظاهرا فيما يحمل الكم والكيفَ ذاته مِن الأخطاء. الفاعل فى الحالين واحد؛ كتابٌ وصحفيون ومراجعون.

كتبت مجلة روزاليوسف فى أحد عناوينها الرئيسة مفردة «ضرب» بدلا من «درب»، وكتبت صحف كثيرة عن العناصر «الإيثارية» بدلا من العناصر «الإثارية»، كما حلَت مفردة «المبتورين» محل أخرى أكثر صعوبة هى «الموتورين» فكانت السقطات كلها باعثة على السخرية المريرة. الضرب يعنى النوع والدرب يشير إلى الطريق، والإيثار هو تفضيل شىء على آخر بينما الإثارة أمر يتعلق بالحفز والتيقظ والحماسة، وفى حين يمكن إحلال ضرب مَحَل درب ــ تجاوزا ــ فى بعض الجمل والعبارات فإن الفارق ما بين الإثارة والإيثار يقلب المعنى رأسا على عقب فيحمله القارئ على النقيض. على كلٍ، يكون الخطأ مقبولا ممن اعتاد الخطأ ومُفجِعا مِمِن رام ذات يومٍ من الأيام بهاء واكتمالا، ولا أقل والوضع هكذا، مِن وقفة حداد على مدرسة صحافة بحجم روزاليوسف كانت تُخرِج الأعلام فباتت فى حاجة لمن يخرجها من كبوتها.

طرقت الأمر كثيرا وعانيت كثيرا ويعانى مثلى آخرون ربما ليسوا كثرة لكنهم موجودون، يأسون لحال اللغة ويتحسرون، ويرون مآلها من مآل الوطن المكسور. شكوت لنفسى من الإعلانات واللافتات التى تملأ الشوارع وتمتلئ بالأخطاء التى توجع العينين والرأس وتبعث على التقزز، ثم شكوت علنا لعل فى السامعين والقارئين من يهتم فنغدو جمعا ولو صغيرا بدلا من فرادى.
***
فى خضم محاولاتى البائسة لإحداث تغيير طرحت على الأساتذة الأجلاء من المجمعين تخصيص دورات لأهل الصحافة والمشتغلين بتصويب لغتها فى الأخبار والمقالات والتحقيقات. وجدت للحق ترحيبا واستحسانا لكن الترحيب لم ينتقل إلى حيز التنفيذ إلى الآن، أو أن الحيز ضاق عنا ووسع آخرين، فقد سمعت من بعض الأصدقاء أن المجمع يحتضن دورات متعلقة باللغة العربية، يحضرها المهتمون، لكنها للأسف مُخصصة لغير المصريين.

فى معرض كتاب مالطا التى تحمل لغتها الرسمية الحالية عديد الكلمات العربية، وبعض الفرنسية أيضا والإنجليزية والإيطالية، والتى يقال إنها مشتقة من اللغة المستخدمة فى الإمبراطورية الفاطمية التى حكمت جنوب إيطاليا من القرن التاسع إلى الثانى عشر، حضرت جلسة محورها اللغة المالطية. لم أفهم مما قيل الكثير ولم ألم بمحاور الجدل كلها، لكنى بقيت أنصت فى متعة لأناس يبحثون ويعرضون نتائج دراساتهم على الشاشة الواسعة ويُخضِعون مُقترحاتهم لنقاشٍ مُستَفيض؛ احتراما للغة الوطن وصونا للهُوية التى تحمل مكوناتَ مُتباينة انصهرت على مَر التاريخ. تلامذة المراحل التمهيدية فى مالطا يتفوقون على تلامذتنا فى اختبارات اللغة العربية كافة؛ معلومة تذكرها الإحصاءات وتؤكدها نتائج الامتحانات الدورية ويتطرق إليها الكتاب والباحثون.
***
رحل عنا منذ فترة قصيرة فاروق شوشة صاحب اللغة الناصعة، الأنيقة والفاتنة أيضا، ومعه رحلت أشياءٌ كثيرة كانت قد ارتبطت به فى أذهان الناطقين بالضاد ومحبيها. كتب من رثوا الفقيد حول مهارته اللافتة وتمكُنه الأصيل، وبالتأكيد حول صوته الآسر الذى يخلب لُبَ المستمع فيجعله خَدِرا مَسحورا لعمقه وحلاوته. استعدت حديثه الأول لى عبر الهاتف، لم أعرف حينها بما ولا كيف أرد، فقد سمرنى الصوت الرخيم وأسكتتنى الألفاظ المنتقاه بعناية فائقة، ومخارج الأحرف الواضحة التى لا لبث فيها ولا اختلاط. خشيت أن أنطق فأفسد وقع ما قال.

تذكرت فاروق شوشة وتمنيت لو أن مجمع اللغة العربية الذى احتضنه أمينا لأكثر من عشر سنوات، يأخذ على عاتقه مهمة تنظيم دورة فى مبادئ وأصول اللغة العربية، تستقبل الإعلاميين الراغبين فى الحفاظ على لغتهم والاستزادة من بحورها وتنقيتها مِن جسام الأخطاء. دورة ترسى ما سعى إليه فاروق شوشة طيلة حياته، فتحمل اسمه وتتوج سنوات عمله وتصبح أثرا باقيا ينتفع به الآخرون.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات