الإله «بس» يضحك و ينتظر - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 12:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإله «بس» يضحك و ينتظر

نشر فى : السبت 19 أغسطس 2017 - 8:55 م | آخر تحديث : السبت 19 أغسطس 2017 - 8:55 م
كلما حلت أيام الجوع وارتسم الوجوم على ملامح الناس، وكلما ظهر الغضب المتوارى عن الأنظار فى صورة مشادة على لا شىء خلال السير والزحام، لا أبالى بالضوضاء العارمة، وتداعب خيالى هيئة الإله «بس» الذى أعجبت بتمثاله قبل سنوات عديدة فى معبد «دندرة» ــ غرب النيل ــ على بعد ستة كيلومترات من مدينة قنا.
المعبد المخصص بالأساس لعبادة «هاتور» أو «حتحور»، إلهة الحب والجمال والأمومة ــ الذى تم اكتشافه على يد جنود بونابرت فى سبتمبر 1799ــ اشتهر بكونه مركزا للمعرفة، فعلى سقف إحدى مقصورات قدس الأقداس رسمت لوحة «الزودياك» أو دائرة الأبراج الفلكية، الموجودة حاليا بمتحف اللوفر، كما يحوى المعبد حجرة للولادة، يقف بداخلها الإله «بس» ليحمى السيدات الحوامل والأطفال ويضفى جوا من المرح والترفيه لتخفيف الألم، فهو إله الفرفشة والضحك والفرح أو إله المسخرة عند الفراعنة، الذى يلجأ إليه العامة كما الملوك لدرء الأذى وطرد الأرواح الشريرة، ليحل محلها الأنس والغناء والرقص والسعادة. 
***
قزم ممتلئ نوعا ما، يداه طويلتان مقارنة بساقيه، يخرج لنا لسانه فى كثير من الأحيان، ويحمل هارْب أو قيثارة قديمة فى بعض اللوحات أو سيفا ليحارب الأفاعى والأعداء. شدنى وضع إله المسخرة وتاريخه، فحتى مظهره مختلف عن الآخرين، وهو ما يلفت الانتباه فى البداية، خاصة وأنه ينظر إلينا وجها لوجه، ولا يرسم بروفايل جانبى لوجهه مثلما يصور باقى الآلهة على جدران المعابد، كما أن أصوله المصرية مشكوك فيها، فالبعض يزعم أنه يرجع فى الأساس إلى السودان أو الصومال (بلاد بنط التى نشطت «حتشبسوت» التبادل التجارى معها)، وقيل أيضا إنه استلهم من رحلات منطقة البحيرات العظمى، وسط أفريقيا، ما يفسر ربما أنه كان يلبس أحيانا تاجا من الريش أو جلد أسد على ظهره، كما يفسر ارتباطه بالإلهة «حتحور» الملقبة بسيدة بنط. 
معبود قوى أو بالأحرى له شعبية امتدت عبر العصور، فكان له تأثير كبير أيام الدولة الحديثة الفرعونية، وأيام البطالمة والرومان، وعرف أيضا بعدها عند الفينيقيين والقبارصة القدماء، لكن لم تفرد له الكثير من المعابد كسواه (على الأغلب معبد واحد فى البويطى بالواحات البحرية)، ذلك رغم تعلق الناس به، إذ كانوا يبعثون له الأسئلة مكتوبة على ورق البردى لكى يحل مشاكلهم، كما يفعل البعض حاليا عند توجيه الرسائل للإمام الشافعى أو غيره من أصحاب الكرامات، مع الفارق بالطبع.
كان السحرة يستخدمونه فى التمائم والتعاويذ. يضع الميت صورته على المخدة لكى ينعم بالراحة الأبدية، والحى يحتمى به عند النوم لكى يمنع عنه الكوابيس. وعندما يبتسم رضيع وهو يغط فى سبات عميق، كانوا يظنون أن «بس» هو من يضحكه بصفته إله الفرفشة. 
***
أتوقف مليًا عند هذا الإله الذى قد يبدو هامشيا مقارنة بغيره، إلا أنه ضالع بشدة فى الكثير من أمور الحياة ومرتبط بالواقع دون جلبة. الراقصات المحترفات و المحظيات يوشمون صورته على أفخاذهن لحمايتهن من الأمراض الجنسية وخلافه أو طلبا للخصوبة، كما الرجال الذين يحلمون بفحولته ويتباركون به، فإله الفرفشة لم يكتسب مكانته من فراغ، بل ظل الناس متمسكين بوجوده من عصر لعصر، حتى أيام «أخناتون» والتوحيد، إذ وجدت تماثيل صغيرة له فى منطقة آثار الأشمونين وتونا الجبل فى المنيا، (معقل التوحيد). وكذا بعد ظهور المسيحية، لم يختف فجأة، بل أسند الشعب له دور الشرير فى مواجهة «موسى». لم يعطه شهرة غيره من الآلهة، لكن اكتسب منه قوة السخرية، وتمسك به و بها.
أتأمل الطبيعة البشرية والعقلية الشعبية التى تسعى وراء الغموض والغيبيات ووراء ما يحقق لها منفعة سريعة ومباشرة، فيؤمن مثلا الناس بالسحر وفاعليته. وتختلط الحكايات المصرية بالعديد من الأساطير والمعتقدات الفرعونية واليونانية والأفريقية والعربية والنصوص القديمة مثل ألف ليلة وليلة. 
هو شعب ابتدع إلهًا للفرفشة، رغم القهر. ارتبط به، حتى لو لم يُشيد له المعابد بشكل واضح وملحوظ. والآن، كأن هذا الأخير ينظر إلينا، بكرشه المترهل وأنفه المفطوس ويخرج لنا لسانه وينتظر.
التعليقات