ليالي الحلمية: من اختمار الحلم ييجي النهار - ياسر علوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 مايو 2024 12:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ليالي الحلمية: من اختمار الحلم ييجي النهار

نشر فى : الإثنين 20 يناير 2014 - 2:40 م | آخر تحديث : الخميس 10 أبريل 2014 - 6:43 م

1. عندما نتحدث عن العصر الذهبي للموسيقى العربية في القرن العشرين، فإننا نقصد العقود الستة التي تبدأ من سنوات الحرب العالمية الأولى (مع سيد درويش) وحتى عقد السبعينيات الذي شهد وفاة أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش، وتراجع معدل إنتاج محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي وكمال الطويل والموجي، مقابل صعود الموسيقى الهجينة المسماة بالشبابية (كأن أغاني عبد الحليم حافظ صممت للعجائز!!)، والسوقية المسماة "بالشعبية"، (كأن حمدي باتشان يعكس وجدان الشعب أكثر من محمد رشدي مثلا).

2. وباستثناء بقايا مطربي العصر الذهبي (مثال: وردة وفايزة أحمد...إلخ) وعدد محدود من شباب المطربين آنذاك (مثال: علي الحجار، ومحمد منير). كان الميدان الأساسي لمقاومة الانحدار هو "تترات" المسلسلات، المتنفس الرئيسي لمبدعين كبار، على رأسهم عمار الشريعي وبليغ حمدي (رائد هذا الجنس الموسيقي، من مقدمته الرائعة "للمشربية" أول مسلسلات أسامة أنور عكاشة، وحتى اللحن المذهل الذي اختتم به حياته، تتر مسلسل "بوابة الحلواني").

4. مشكلة "التترات" دائما لا تجمع في ألبومات، وعندما تعاد إذاعة المسلسلات، تكون "التترات" الضحية الأكبر للإعلانات. ومن ثم فنحن نتكلم عن تحف موسيقية، قاومت موجة الانحدار الكبرى منذ نهاية السبعينيات، ولكنها مهددة دائما بالاندثار بسبب وطأة منطق السوق. من هذا المنطلق، أقدم لكم هذا التسجيل لواحدة من كلاسيكيات هذا اللون الغنائي، تتر الجزء الأول من ليالي الحلمية (1987)، كلمات سيد حجاب، ألحان ميشيل المصري، غناء محمد الحلو. مقام الحجاز.

5. البناء الفني لأغنية التتر شديد الطرافة، يقوم على التعامل مع "تتر" المقدمة والختام بصفتيهما أغنية واحدة، تتكرر ببنائها ولحنها، وتتغير فقط الكلمات، وكأن تتر الختام هو مرآة لـ"تتر" المقدمة. لهذا أنصح بالاستماع للمقدمة والنهاية معا باعتبارهما لحنا واحدا. لكني سأقتصر في التحليل هنا على النصف الأول (تتر المقدمة)، علما بأن التحليل ينطبق -موسيقيا- على النصف الثاني أيضا.

6. صيغ هذا الـ"تتر" في قالب الطقطوقة، القالب المسيطر على الغناء العربي منذ ثلاثينيات القرن العشرين، ويتكون كل قسم (= كلا من تتر المقدمة والنهاية) من مذهب وغصنين (= كوبليهين باللغة الدارجة)، كل منهما مصاغ بلحن مختلف، ويتكرر غناء المذهب بعد كل كوبليه، «على ما تقضي أصول تلحين وغناء الطقطوقة».

7. تتكون الكلمات من 3 مربعات (مذهب، وكوبليهين)، استعرض فيها سيد حجاب قدراته الشعرية والغنائية بشكل شديد التميز. فالمربع الأول، المذهب يتكون من 4 أبيات، كل شطرين من كل بيت بنفس القافية، بحيث يجيب الشطر الثاني عن السؤال المطروح في الشطر الأول، ولكن قافية كل بيت تختلف عن قافية البيت التالي (مثال: الشجن/الزمن، السواد/العناد...إلخ). هذا البناء المبتكر يتناسب مع الطابع القاطع للكلمات التي تبدو كخلاصة للتأمل في الزمن الطويل الذي تغطيه الليالي بأجزائها الخمسة. كما يلفت النظر هنا، أن الأبيات الأربعة تبدأ بنفس الاستفسار (منين بييجي؟)، الأمر الذي يحافظ على وحدتها رغم اختلاف قافية كل بيت.

8. أما المربع الثاني (من انكسار الروح...إلخ)، فيتكون من 3 أبيات (الأول والثاني والرابع) بقافية واحدة (الوطن/البدن/سكن)، والبيت الثالث بقافية مختلفة. هذا طبعا هو نفس الشكل الشهير الذي استخدمه صلاح جاهين في رباعياته العظيمة. وأخيرا، فإن المربع الثالث، تتطابق فيه قافية البيت الأول مع الثالث (أبريا/ السخرية)، والثاني مع الرابع (رجوع/ الدموع). وهذا هو قالب المربع التقليدي الذي استخدمه ابن عروس (أقدم شعراء العامية) في مربعاته وصيغت به السيرة الهلالية.

باختصار، نحن أمام شاعر مقتدر، لا يقدم فقط استعراضا مبهرا لموهبته الفذة «ويمسي في السكة باختياراته على شعراء العامية عبر العصور، من ابن عروس إلى صلاح جاهين»، وإنما يمتلأ نصه بموسيقى وصور مبتكرة تشعل خيال «أتخن» ملحن!!

9. أما عن الملحن: فـ"لميشيل المصري" قصة شديدة الطرافة، عازف "كمان" متميز عزف طويلا في الفرقة الماسية، وألف موسيقى خالصة وألحانا مسرحية، لكنه جاء لسوء حظه في الوقت الخطأ (بعد اندثار المسرح الغنائي في مصر)، ثم قاده السعي على الرزق للإقامة لفترة طويلة خارج مصر، يعلم أجيالا من موسيقيي الكويت، الأمر الذي حرمنا من طاقاته اللحنية في عزها، والتي يشهد عليها هذا اللحن العظيم، وألحان تترات أخرى لمسلسلات اندثرت لأنها كانت ألحانا جميلة لمسلسلات درجة عاشرة، فاختفت مع سقوط هذه المسلسلات من ذاكرة المشاهدين (المثال الشهير هنا هو لحنه الرائع لتتر مسلسل شديد السخافة هو "من الذي لا يحب فاطمة"). هذا عن ميشيل المصري بشكل عام، فماذا عن هذا اللحن بالذات؟

10. يبدأ اللحن بجمل موسيقية تنبيهية (أي منفصلة عن لحن المذهب، وتتكرر بنفس لحنها مرتين أو ثلاثا، وتكون الحكمة منها هي تنبيه السميعة، لأن هناك لحنا جللا على وشك أن يبدأ! المثال الشهير هنا هو "الطقطوقة" الفذة (إمتى الزمان يسمح يا جميل) لعبد الوهاب، وهي أجمل "طقاطيق" القرن العشرين في رأيي وتبدأ بنفس الطريقة). الطريف في هذه الجمل التنبيهية – من زاوية التوزيع- أن "الكمان" يلعب فيها دورا "إيقاعيا"، وكأنه يدق طبلة التنبيه!! (ربما كان لهذا الاختيار علاقة ببدايات ميشيل المصري كعازف كمان).

عموما، بعد هذه الجمل التنبيهية، تأتي جملة تشبه التقسيمة من مقام الحجاز بصوت "الأوكورديون" (الآلة التي تمصرت تماما وارتبطت في ذاكرة المستمعين بالألحان الراقصة وتابلوهات راقصات منتصف القرن العشرين، كنعيمة عاكف وتحية كاريوكا) . وهكذا، تحول "الأوكورديون" بقدرة قادر من آلة أجنبية، إلى جزء من "النوستالجيا" لحقبة الأربعينيات، التي يبدأ بها المسلسل!!

يلي ذلك المذهب، وهو من مقام الحجاز. لا فذلكة هنا، جمل شجية كلها من نفس المقام، لترسخه في نفس المستمع، بما أن الملحن سيحتاج للعودة له بعد كل كوبليه كما تقضي أصول غناء "الطقطوقة".

11. أما "الغصن/الكوبليه"، الأول (من انكسار الروح...)، فينتقل لمقام العجم، ولكنه مقام العجم الذي يبدأ من درجة الـ"ري" وليس درجة الـ"دو" كما هو شائع. لماذا؟ السبب ببساطة هو أن درجة "ري" هي نفس الدرجة التي يبدأ بها مقام الحجاز، وبالتالي يمكن أداء الغصن كله من مقام العجم، وإنهاؤه بقفلة على درحة الري –النوتة المشتركة بين الحجاز والعجم- وبالتالي تستلم المجموعة من المطرب وتبدأ فورا في ترديد المذهب، بدون حاجة لفاصل موسيقي يمهد للعودة من العجم للحجاز، بما أنهما يقفلان على نفس النوتة الموسيقية (درجة الري)، وهكذا تمر النقلة المقامية بمنتهى النعومة وبدون أن تزعج المستمع.

نفس اللعبة تتكرر في "الغصن/الكوبليه" الثاني الذي يؤدى من مقام البياتي الشجي، الذي يبدأ وينتهي أيضا من درجة "ري"، وبالتالي نعود للمذهب بمنتهى السلاسة. بعبارة أخرى، نحن أمام معلم حقيقي، ملحن قدير يعرف كيف يستعرض قدراته على التنوع المقامي، بدون إرهاق للمستمع. شيء شديد الروعة.

12. نأتي للأداء: محمد الحلو في نظري أهم أصوات مصر في الربع الأخير من القرن العشرين. صوت جميل وشديد العذوبة، وفي نفس الوقت راسخ تماما في فنون الموسيقى العربية (تربية فرقة أم كلثوم والمايسترو العظيم حسين جنيد). الحلو أدى هذا اللحن في أقوى مراحل صوته وأكثرها نضجا، وهو ما يتضح ليس فقط من أدائه الرائع، وإنما أيضا من قدرته على الارتجال القصير (ما يسمى بالعرب، بضم العين وفتح الراء) بدون "فذلكة" وبشكل يسلطن ولكنه لا يخرج المستمع عن جو اللحن الأصلي.

نلاحظ ذلك بوضوح في أدائه لحرف النون في الكلمة الأخيرة في الكوبليه الأول "يعود غريب الدار لاهل وشجن"، حيث يمد الحلو حرف النون الأخير في كلمة "شجن" (رغم أن النون ليست لغويا حرف مد)، ناقلا نفسه بمنتهى الحرفنة من مقام العجم إلى مقام الحجاز ليسلم الراية في قفلة رائعة لجوقة المرددين التي تبدأ فورا في تكرار المذهب.

ثم يواصل الحلو استعراض قدراته الارتجالية في مطلع الغصن الثاني (ليه يا زمان ما سبتناش أبرياء). هنا أيضا يظهر أثر تجربته في فرقة الموسيقى العربية، فهو يؤدي هذا البيت أولا بحذافيره وبدون ارتجال لنسمعه أولا كما أراده الملحن، ثم يكرره مع إضافته (من خلال المد في حرف الياء في كلمة "ليه" بشكل يتيح له عربة متمكنة). هذه بالضبط هي أصول الارتجال في الموسيقى العربية (أن تؤجل العرب للإعادة، بحيث يرسخ اللحن الأصلي أولا في ذهن المستمع، ثم يبدأ الارتجال). تربية المعلم حسين جنيد بقى!

13. الحقيقة أن محمد الحلو ينتمي لطبقة فريدة من مطربين عظام ظلموا أنفسهم باختيارات أقل كثيرا من حجم مواهبهم (من بين هؤلاء مثلا محمد قنديل، أحد أعظم أصوات القرن العشرين، الذي لم نسمع منه –رغم روعة أغانيه- كل ما كان يمكن أن يقدمه بقدراته الصوتية الفذة، ومنهم أيضا المطرب العظيم وديع الصافي الذي أخطأ في حق نفسه في رأيي بالإصرار على تلحين أغانيه، فتراجع مستواها بشكل فادح عن الألحان التي قدمها له عبد الوهاب وبليغ حمدي وفلمون وهبي والرحابنة).

ينعكس هذا بوضوح في حالة محمد الحلو، من مقارنة الألحان التي "اختير لأدائها"، مثل ليالي الحلمية وزيزينيا، والتي ستبقى بصمته التي تعيش لعقود طويلة قادمة، بمستوى الأغاني التي اختارها لنفسه في ألبوماته (من "عراف" إلى "يا بوي يا مصر")، والتي أقل ما يقال عنها أنها ظلمت موهبته الصوتية العظيمة. ولله في خلقه شؤون!

14. أخيرا، هذا رابط النهاية للجزء الأول، وهو ليس فقط تكرارا في بنائه ولحنه لتتر المقدمة، وإنما ينفرد (عن سائر أجزاء الليالي الأخرى) بوجود كوبليه جميل (لابد من بكره اللي طال انتظاره..) حذف لاحقا من تتر النهاية في الأجزاء التالية، بعد أن اشتهر المسلسل وطغت الإعلانات على مساحة التتر.. ألا قاتل الله منطق السوق وطغيان المعلنين!

عموما، استمتعوا وتسلطنوا! ودعونا لا ننسى تترات المسلسلات وكنز الموسيقي الذي تحويه.

ياسر علوي  كاتب وأكاديمي مصري
التعليقات