إدارة التعايش مع الجائحة: ضرورات ومنزلقات - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الأربعاء 4 ديسمبر 2024 7:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إدارة التعايش مع الجائحة: ضرورات ومنزلقات

نشر فى : الأربعاء 20 مايو 2020 - 9:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 20 مايو 2020 - 9:05 م


لا يمكن لأية دولة تحمل إغلاق اقتصادها لأجال لا تعرف نهايتها، كما لا يمكنها أن تفتحه على حساب صحة وحياة مواطنيها، كأنه ليست هناك جائحة تحصد الأرواح.
فى الحالة الأولى فإنه الموت جوعا وفى الحالة الثانية فإنه الموت عمدا.
بين التناقضين فإن التعايش مع الجائحة وضع اضطرارى لا خيار فيه بأية دولة فى العالم.
القضية الحقيقية ليست فى التعايش بذاته بقدر ما هى فى الطريقة التى يجرى بها، والمعايير التى تحكم خطط تخفيف الإجراءات والقيود على حركة الحياة اليومية.
لا يوجد كتالوج واحد يحدد للدول ما يتوجب عليها فعله فى مواجهة تداعيات وآثار الوباء على الحياة العامة.
لكل دولة ظروفها وحساباتها التى تحدد البوصلات الرئيسية فى التعايش مع الجائحة حسب كفاءة نظمها الصحية وقدرة اقتصادها على التحمل بأقل أضرار ممكنة.
الجائحة تمثل اختبارا قاسيا لكفاءة الدول والنظم والسياسات الصحية والاقتصادية.
فى دولة مثل ألمانيا تبدت قدرات فى منظومتها الصحية مكنتها من السيطرة على ضربات الوباء الموجعة وأعطت بالفحوصات الواسعة نموذجا يحتذى به لدقة أعداد الإصابات.
لم تكن مصادفة أن تتقدم ألمانيا، رغم ما تعرضت له من أضرار صحية واقتصادية فادحة، الدول الأوروبية كلها فى فتح الحياة بقدر ما هو ممكن وعودة مباريات كرة القدم إلى ملاعبها باشتراطات مشددة وبلا جمهور.
بالمعايير الرياضية، فإنه إنجاز يعتد به، لأن اللعبة بطبيعتها تفترض احتكاكات بين اللاعبين بينما الاشتراطات الصحية تتطلب الابتعاد الاجتماعى.
كان ذلك نوعا من التعايش مع الجائحة، أو نوعا من العودة المقيدة لرياضة ذات شعبية طاغية.
وبالمعايير الاقتصادية، فإنه عمل ضرورى لإنقاذ «بيزنس كرة القدم» من الإفلاس.
الاقتصاد قبل الرياضة والمصالح المالية قبل متعة المشاهدة.
هذه هى الحقيقة التى تدفع الدوريات الأوروبية الكبرى الأخرى إلى تتبع التجربة الألمانية للاستفادة من دروسها قبل عودة المباريات إلى ملاعبها، كما هو متوقع ومنتظر باستثناء الدورى الفرنسى الذى أعلن إنهاء موسمه الكروى لأسباب احترازية مشددة.
هناك شىء من المغامرة الصحية المحسوبة فى عودة الدوريات الإنجليزية والإيطالية والإسبانية، قد تفضى إلى إلغاء التجربة إذا ما ضرب الوباء فريقا أو أكثر، أو حدث نوع من الخلل فى الالتزام بالاشتراطات المشددة، أو إذا ما جرت تجمعات لجماهير على أبواب الاستادات دون أى التزام بقواعد التباعد الاجتماعى.
هناك منطق يمكن تفهمه فى عودة الدورى الألمانى، وبدرجة أقل الدورى الإنجليزى، بالنظر إلى القدرات الصحية والاقتصادية للبلدين غير أن إقدام إيطاليا وإسبانيا على نفس الخطوة فيه تغليب مفرط للاعتبارات الاقتصادية خشية إفلاس «بيزنس كرة القدم».
فى هذين البلدين الأوروبيين الأكثر تضررا من الجائحة غلب المنطق نفسه أيه مخاوف فى فتح قطاعات حيوية أخرى يعتمد عليها اقتصاديهما كالسياحة والفنادق والمتاجر والمقاهى والمطاعم والطيران وحرية التنقل بين دول الاتحاد الأوروبى.
استندت إجراءات فتح الحياة على أمرين معلنين، الأولــ انخفاض نسب الإصابات والوفيات.. والثانيــ التشدد فى إجراءات الفتح خشية ما هو أسوأ.
الخطوات نفسها اتخذتها دول أوروبية أخرى تعتمد على السياحة موردا رئيسيا كاليونان خشية أن يتعرض البلد لما هو أسوأ من الأزمة المالية التى عصفت بها قبل فترة قريبة.
فى العالم العربى لجأت تونس إلى فتح المجال أمام عودة السياحة إليها، ومصر تتحرك فى هذا الاتجاه، وباليقين سوف يذهب إليه لبنان.
هذه حسابات اضطرارية، لكن يظل السؤال ماثلا وملحا: كيف؟.. وما ضمانات سلامة الإجراءات الاحترازية حتى لا يتفشى الوباء فوق طاقة النظم الصحية المنهكة، وهى لا يمكن مقارنتها بالنظم الصحية الأوروبية، التى كاد الوباء أن يدهسها؟
السؤال نفسه يطرح مسألة كفاءة إدارة التعايش على جدول أعمال الدول والنظم، هنا وباتساع العالم.
إذا لم يكن هناك تفاهما وطنيا واسعا حول الخطوات والسيناريوهات المتوقعة فإن الفوضى سوف تضرب المجتمعات بأكثر من الجائحة نفسها.
الولايات المتحدة، التى يفترض أنها أقوى دولة فى العالم، الاقتصاد الأول، والقدرات العسكرية والعلمية والتكنولوجيا والبحثية الأولى، بدت شبه مترنحة وحصدت أعلى إصابات ووفيات فى العالم بأسره.
كان ذلك تعبيرا عن فشل سياسى فادح وغياب أية قدرة على صناعة التوافقات الداخلية.
تمزقت الولايات المتحدة بين نزعتين متناقضتين ذهبت إحداهما إلى الاستخفاف بالوباء وتجنب أية إجراءات تغلق الحياة مؤقتا، كأنه لا توجد أية أخطار تهدد حياة ملايين المواطنين، فيما ذهبت الأخرى إلى ضرورات الغلق المؤقت والتشدد فى الإجراءات الاحترازية حتى يمكن حصار الوباء.
عبر الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» عن النزعة الأولى ومال منافسيه الديمقراطيين إلى الثانية.
لا عبرت نزعة «ترامب» عن أى قدر من الكفاءة فى إدارة أزمة الوباء ولا إدارة التعايش الاضطرارى معه.. ولا تمكنت النزعة المضادة من تحسين الأداء العام رغم الجهود التى يبذلها عدد كبير من حكام الولايات فى التقليل من مستويات خطورة عشوائية قرارات «ترامب».
هذا النوع من شبه العجز الكلى عن صناعة التوافقات الداخلية يكاد يزيح الولايات المتحدة من على قمة النظام الدولى، إذا لم يكن غدا فبعد غد.
نفس الأداء الشعبوى الهابط للرئيس الأمريكى تكرر بنصه تقريبا فى البرازيل، التى أصبحت تحتل المركز الأول لأكثر دول أمريكا اللاتينية إصابة بالوباء، كأن «جايير بولسونارو» نسخة شعبوية أخرى لـ«ترامب»، كلاهما حرض على التظاهر ضد أى إجراءات تغلق الاقتصاد مؤقتا ودخل فى مصادمات مع حكام الولايات والسلطات الصحية فى بلاده.
بالمقابل نجحت دول أسيوية عديدة، فى مقدمتها الصين وكوريا الجنوبية، فى إدارة أزمة الوباء أولا والتعايش معه ثانيا لحين الوصول إلى لقاح.
إدارة التعايش مع الجائحة إحدى المقاييس الأساسية لقدرة الدول على الصمود أمام أثارها وتداعياتها المدمرة.
بقدر الاستناد إلى العلم والانفتاح على أهل الاختصاص من أطباء واقتصاديين فى إدارة التعايش يمكن تجاوز المرحلة الحرجة بأقل خسائر ممكنة.
لا توجد وصفات سهلة، فإذا لم ينفتح المجال العام للاستفادة من كل رأى سوف نجد أنفسنا أمام منزلقات لا حدود لخطورتها.
إذا أردنا أن نصارح أنفسنا بالحقائق فإن الإجراءات الأخيرة المشددة، التى أعلنها رئيس الحكومة المصرية فى فترة إجازات أسبوع عيد الفطر ربما تكون قد ساعدت فى ترميم الثقة مجددا فى الأداء الحكومى بعدما تعرض لانتكاسة مع زيادة أعداد الإصابات والوفيات خاصة فى أوساط الفرق الطبية دون حماية كافية.
من ناحية صحية فإن الإجراءات ضرورية لوقف نزيف الأرواح حتى لا يتعرض الجهاز الطبى لتصدع محتمل تحت ضغط التزاحم فى مثل هذه المناسبات.
ومن ناحية سياسية فإنها استجابة لنداءات نقابة الأطباء وكبار الأطباء، بفرض شبه إغلاق فى أسبوع العيد.
هذه إشارة إيجابية تومئ بالقدرة على إدارة التعايش شرط أن تمضى فى صناعة التوافقات الوطنية الواسعة والاستماع إلى أهل العلم والاختصاص وفتح المجال العام أمام كل اجتهاد وطنى.