السياسة الخارجية الليبية.. نحو رؤية انتقالية تحقق المصلحة الوطنية - يوسف محمد الصواني - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السياسة الخارجية الليبية.. نحو رؤية انتقالية تحقق المصلحة الوطنية

نشر فى : الخميس 20 مايو 2021 - 10:25 م | آخر تحديث : الخميس 20 مايو 2021 - 10:25 م
أثارت التصريحات التى أدلت بها وزيرة خارجية حكومة الوحدة الوطنية الليبية السيدة نجلاء المنقوش بشأن القوات الأجنبية الموجودة فى ليبيا ردود أفعال بين ترحيب واستنكار، وفقا لموقف الأطراف الليبية المتصارعة وبما عكس ارتباطاتها الخارجية. وبقدر ما أبانت تلك التصريحات وردود الأفعال مدى الارتباك وغياب الرؤية لدى حكومة الوحدة الوطنية فقد أكدت أن ليبيا بحاجة ماسة إلى رؤية واضحة لتحقيق وحدتها واستعادة سيادتها والحفاظ على ما تبقى من أمنها الوطنى. كما عكست ما عانته السياسة الخارجية الليبية من الآثار السلبية التى ترتبت على الكثير من سياسات نظم الحكم السابقة وتوجهات سياستها الخارجية والمقاربة التى تبنتها فى إدارة العمل الخارجى وتنظيم أدواته بما فى ذلك وزارة الخارجية والبعثات الدبلوماسية فى الخارج. وقد ازدادت هذه المعاناة بعد 2011 بفعل الاحتراب الداخلى والتدخل الخارجى وممارسات النخب الجديدة فى دولة هى أقرب ما تكون فاشلة. كما أدى الانقسام السياسى الذى عانت منه البلاد منذ 2014 ليس فقط إلى الافتقار إلى سياسة خارجية وطنية، بل أدى عمليا إلى وجود سياسات خارجية متعددة، حيث تبنى كل طرف توجهات ومواقف خارجية مخالفة للأطراف الأخرى.
كانت إحدى النتائج المدمرة ارتفاع وتيرة النفوذ والتغلغل الخارجى وتعميق الضعف الكامن فى أدوات العمل الخارجى التى عانت الانقسام والافتقار إلى الكفاءات وتضخم العاملين بها بشكل غير مسبوق لا يعكس سياسة خارجية واضحة مع سيطرة ظاهرة لفاعلين مختلفين على مقدرات وأدوات العمل الخارجى مما ضاعف من هشاشة الدولة الليبية على كل المستويات. فى الجزء الأول من هذا المقال نقدم تشخيصا لواقع السياسة الخارجية الليبية وما تعانيه بهدف تقديم مقترحات لرؤية انتقالية للسياسة الخارجية الليبية بما يحقق المصلحة الوطنية.

سياسة خارجية لخدمة الداخل
رغم الاستبشار بنتاج الحوار السياسى والطموح إلى توحيد المؤسسات وصولا إلى انتخابات تفرز سلطات ديمقراطية، فإن تحديد ملامح السياسة الخارجية الحالية لليبيا لا يبدو ممكنا. ويرجع ذلك، جزئيا على الأقل، إلى أن السياسة الخارجية ليست منعزلة عن الأوضاع الداخلية فى الدولة والتحديات التى تواجهها. وضع رؤية أو ملامح للسياسة الخارجية الليبية مرهون بوجود اتفاق وطنى على رؤية شاملة بشأن الدولة ومؤسساتها والنظام السياسى، وهو ما يصعب تحقيقه فى هذه المرحلة المتميزة بالصراع والتدخل الخارجى ومهددات الوحدة والسلم الأهلى، ضمن اتفاق وطنى حول الدولة وقوتها المدركة ودورها فى محيطها الإقليمى وحدود ذلك الدور ونطاقه بفهم طبيعة النظام الدولى وأطره وتفاعلاته وموقع ليبيا فيه وحدود التأثر والتأثير.
وبصرف النظر عن أن ليبيا بلد يواجه المعضلة التى تعرفها الدول الصغيرة فى النظام الدولى فإن أى تصور أو رؤية للسياسة الخارجية لن يكون ممكنا قبل انتهاء الانقسام وتحقيق المصالحة الشاملة واستعادة الدولة وتقوية مؤسساتها. لكن هل يعنى ذلك أنه ليس بإمكان السلطة المؤقتة فى ليبيا وضع معالم رؤية أو عناصر أساسية لرؤية للسياسة الخارجية بما يحقق خدمة المصلحة الوطنية فى هذه المرحلة المتميزة بالصراع والتدخل الأجنبي؟ مثلما أشرنا فإن ما أثارته تصريحات السيدة نجلاء المنقوش من ردود أفعال تؤكد أن ليبيا بحاجة عاجلة لتحديد أولويات السياسة الخارجية ووضع أسس وقواعد تحكم العمل الخارجى وأدواته المختلفة بما يحقق قدرا مناسبا من الإجماع الوطنى ويخدم الأهداف التى جاءت الحكومة لتحقيقها وهى علة وجودها.
هكذا وحيث السياسة دائما هى فن الممكن، فإن الأولوية فى ظل هذه التحديات هى البحث فى مقاربة مناسبة لما يمكن توفيره من عناصر سياسة خارجية ليبية يمكن أن تسهم فى تحقيق هذه الأهداف الوطنية وأن تقدم ما يمكن من الدعم أو الحصول على الدعم الخارجى الذى يسهم فى تحقيق أهداف ما بعد الصراع وفى مقدمتها الاستقرار والمصالحة والتخلص من النفوذ الأجنبى والحيلولة دون إعاقته لتلك الأهداف. رؤية السياسة الخارجية الليبية فى هذه المرحلة تفرض أن تكون انعكاسا للداخل واحتياجاته وليس طموحا أو خيالا بأدوار خارجية نشطة وتوسع للعمل الخارجى بل العمل على توفير كل ما يمكن أن يساعد على تحقيق تلك الأهداف الوطنية (الداخلية) بحكم الترابط الوثيق فى عالم اليوم بين الداخل والخارج. وهكذا لا بد أن تكون السياسة الخارجية وكل مستويات العمل الخارجى الليبى موجهة للداخل بمعنى أن تسعى لتوفير ما يساعد ويخدم الأهداف الوطنية فى الداخل.

رؤية انتقالية للسياسة الخارجية الليبية
إن رؤية السياسة الخارجية فى هذه المرحلة الانتقالية لا ينبغى أن تتجاوز هدف خدمة الأمن الوطنى والاستقرار والمصالحة وإعادة إطلاق الاقتصاد والإعمار. ذلك يقتضى حكما تحديد دوائر أساسية للعمل أو السياسة الخارجية تتواجد فيها أذرع السياسة الخارجية وأدواتها المختلفة بما فيها البعثات الدبلوماسية والقنصلية. هكذا يصبح العمل الخارجى مركزا ومحصورا بدوائر عمل ترتبط بالأهداف المرحلية بما يقتضى تحديد العدد والحجم المناسب للبعثات والقنصليات وإعادة تنظيم الوزارة فى تناغم مع تنظيم أوسع يشمل كل مؤسسات وأدوات العمل الخارجى للدولة الليبية لتكرس جميعها لخدمة الهدف. وتحقيقا لهذه الغاية يتم التركيز فى المرحلة الانتقالية على العلاقات مع الدول والمنظمات أو الكتل التى يمكن للعلاقات معها أن تدعم الأهداف الوطنية. ذلك يقتضى حصر العمل الخارجى فى هذه المرحلة بدوائر خارجية تشمل دول الجوار والدول الدائمة العضوية فى مجلس الأمن الدولى ومجموعة الدول الصناعية الكبرى وبعض الدول التى تمثل نماذج عالمية ناجحة فى المجالات التنموية والاقتصادية والعلمية، إضافة إلى مباشرة العمل ضمن المحافل المختلفة فيما يخص قضايا وانشغالات تؤثر فى ليبيا مباشرة. هكذا يبدو ملحا أن تكرس المؤسسات المعنية فى ليبيا جهدا خاصا لإعادة ترتيب دوائر العمل الخارجى بما يستوعب التحول الحاصل فى النظام العالمى والمتغيرات الإقليمية التى تبين جدوى التخلص من الجغرافيا كحتمية دون تجاهل لارتباطها بالأمن ضمن مفهوم جيواستراتيجى أوسع. ويمكن أن يتحقق ذلك على النحو التالى:

أولا: دائرة الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن الدولى
لا يخفى على أحد أهمية العمل فى ومع الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن الدولى بما يضمن وقوفها إلى جانب ليبيا ودعم جهود المصالحة والاستقرار وإنهاء العنف والانقسام والتدخل الخارجى علاوة على إيصال رسالة مفادها أن ليبيا لا تميز بين تلك الدول ولا تنحاز لأى منها. ومن مقتضيات النجاح فى تحقيق ذلك أن يجرى إعمال مقومات واشتراطات الاندماج بالمحافظة على الحياد عندما يتعلق الأمر بأى تنافس أو صراع بين تلك الدول على أى مستوى.

ثانيا: دائرة دول الجوار الجغرافى
وهى الدول المجاورة المعروفة إضافة إلى الدول الأساسية المطلة على حوض البحر المتوسط الذى عاد تدريجيا كمنطقة ذات أهمية استراتيجية عالمية. فى هذه الدائرة تتأثر ليبيا بالتوترات السياسية والصراعات المسلحة وانعدام الاستقرار والهجرة والإرهاب والجريمة العابرة للحدود والانشغالات حول الطاقة والبيئة، إضافة إلى بروز تمثلات جديدة لتحديات خطيرة مرتبطة بقضايا الصراع العربى الإسرائيلى أو القضية الفلسطينية والتوترات أو الخلافات بين اليونان وتركيا.
الدول فى هذه الدائرة وخاصة فى الجوار المباشر ترتبط بليبيا وبأمنها الوطنى بجميع مستوياته وهى أيضا الدول التى تأثرت وأثرت بأشكال مختلفة فى الحالة الليبية ويتواجد على أراض بعضها أعداد غفيرة من الليبيين والليبيات كما أن لليبيا فيها مصالح اقتصادية وعلاقات ثقافية طويلة ووشائج لا يمكن تجاهلها، إضافة إلى قنوات الاستثمار الليبية المعروفة. لذلك لابد من العمل فى ومع تلك البلدان على أسس من المصالح المشتركة وليس ما قد تقوم به من انتهازية أو استغلال للصراع الليبى والتنافس الاقليمى.

ثالثا: دائرة الدول المهمة اقتصاديا
وتشمل مجموعة الدول العشرين وتضم خاصة الدول التى ترتبط بها ليبيا بوشائج وأواصر اقتصادية هامة كونها مثلا تعتبر المستورد الأساسى للصادرات الليبية وفى مقدمتها النفط والغاز، علاوة على أنها شريك تجارى هام ولها اقتصادات كبيرة ويمكن الاعتماد عليها فيما يتعلق بإعادة تدوير عجلة الاقتصاد والتنمية فى ليبيا. ومن المفيد أن يستدل هذا التوجه بمفاهيم وآليات الشراكة التى تربط التعاون بأهداف التنمية.

رابعا: دائرة الدول المعروفة بنماذجها الناجحة وتقدم لليبيا ما يمكن الاحتذاء به
هنا يكون التركيز على عدد محدود من الدول التى ربما تكون أى منها ضمن الفئات المشار إليها سلفا وهى تشمل سنغافورة وكوريا الجنوبية وماليزيا واليابان والبرازيل وإندونيسيا والهند والتى حققت نجاحات قامت على خطط اقتصادية تنموية موجهة لإحداث تأثير مباشر فى حياة شعوبها.

خامسا: دائرة القضايا الدولية والإقليمية
ليبيا ليست كيانا طرفيا أو هامشيا بحكم مميزات الموقع والأهمية الاستراتيجية وهو ما يجعلها محط أنظار أطراف دولية متعددة. لذلك فإن السياسة الخارجية بحاجة للتعامل مع هذه الميزة بما يجعلها تمثل عنصر تأثير وعاملا معززا للأمن الوطنى بدل أن تصبح مسرحا لتنافس أو صراع قوى خارجية متعددة. يفرض ذلك أن يتم الاهتمام بقضايا إقليمية وعالمية تتصل مباشرة بليبيا وأمنها ومقدراتها وطموحاتها المتمركزة على الخروج من حالة الانقسام والضعف وحماية الأمن الوطنى وتحقيق المصلحة الوطنية. لذلك لابد من التركيز على العمل فى الدوائر التى تثار فيها تلك القضايا ومنها الطاقة والهجرة والإرهاب والبيئة والجريمة والمشاركة فى الدوائر والمستويات التى تتصل بها. من شأن ذلك أن يسمح بالاطلاع على ما يجرى عالميا والمشاركة بما يحقق الأهداف الوطنية.
لقد سعينا فى هذا المقال إلى التعرف على واقع السياسة الخارجية الليبية وتحدياتها وبينا أوجه العجز الذى تعانيه المؤسسة المعنية بها، وهو عجز متراكم منذ أن تكونت الدولة الليبية الحديثة وتضاعفت مفاعيله السلبية منذ اندلاع الصراع فى 2011 وتصاعد وتيرة التدخل الخارجى. كما قدمنا مقترحات لرؤية للسياسة الخارجية الليبية فى هذه المرحلة الدقيقة آملين أن يسهم ذلك فى إثارة النقاش حولها بما يخدم المصلحة الوطنية فى تحقيق الاستقرار والأمن والمصالحة واستعادة السيادة الوطنية عبر التنظيم الاستراتيجى كمقاربة ضرورية لإدارة السياسة والعمل الخارجى.
يوسف محمد الصواني أستاذ السياسة والعلاقات الدولية، جامعة طرابلس - ليبيا
التعليقات