ما لا تنطقه الألسنة.. تبوح به الثقافات - صحافة عربية - بوابة الشروق
الأحد 20 يوليه 2025 10:51 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟


ما لا تنطقه الألسنة.. تبوح به الثقافات

نشر فى : الأحد 20 يوليه 2025 - 6:40 م | آخر تحديث : الأحد 20 يوليه 2025 - 6:40 م

نشرت جريدة عكاظ السعودية مقالا للكاتبة الجوهرة صالح القزلان، تناولت فيه أن الترجمة لم تعد مجرد نقل لغوى للكلمات، فاللغة وحدها لا تكفى لفهم الآخر أو إيصال الرسائل بدقة، لأن المعانى تعيش فى السياق، والنبرة، وحتى فى الصمت. فالاختلافات الثقافية تجعل من الترجمة الحرفية عملا قاصرا، لأن ما يبدو طبيعيا فى ثقافة ما قد يكون غريبا أو جارحا فى أخرى. إذن، ما هو المطلوب؟ المطلوب هو «الترجمة الثقافية» التى تُفسّر، وتُعيد رواية المعنى، وتربط الرسائل بجذورها وسياقاتها. خلاصة القول، تؤكد الكاتبة أننا فى عصر ترجمة المعانى لا الكلمات، حيث لا يكفى أن تُقال الرسالة، بل يجب أن تُفهم، وهذا لا يحدث إلا بالوعى الثقافى المتبادل، الذى يجعل من الترجمة جسرا للتقارب الإنسانى لا مجرد وسيلة لغوية، فالمترجم اللغوى هو رسول للثقافة.. نعرض من المقال ما يلى:

فى زمنٍ تتداخل فيه العوالم وتتقاطع، لم تعد اللغة وحدها كافية لخلق التفاهم. لم يعد مجديا أن تترجم الكلمة وتظن أن المعنى قد وصل، فالمعانى لم تعد تسكن المفردات فقط، بل تسكن السياقات، والإشارات، والنبرة التى تُقال بها الكلمة، وحتى فى الصمت الذى يليها.

نحن نعيش فى عالم متشابك، لا يشبه بعضه بعضا. ما يبدو بديهيا فى ثقافة، قد يكون غريبا أو حتى مستفزا فى ثقافة أخرى. كلمةٌ عابرة فى بيئة ما، قد تحمل دلالات ثقيلة فى بيئة ثانية. وهنا، تظهر الحاجة الملحة إلى ما يتجاوز الترجمة الحرفية، إلى الترجمة التى تفكّك رموز الثقافة، وتُعيد شرحها بلغة الآخر، دون أن تفقد جوهرها.

لم نعد نترجم للّغة، بل نترجم للثقافة. وهذا ما بدأت تدركه بعمق مؤسسات اليوم، خصوصا الجهات التى تتحرك فى المساحات العابرة للحدود، مثل وزارة الثقافة، التى لم تكتفِ بأن «تُعرّف» العالم بثقافتنا، بل بدأت تشرحها، تفسّرها، وتُعيد روايتها بما يكفل فهمها فى سياقها الحقيقى، ومعناها الأصيل، على نحوٍ لا يُفقدها صلتها بجذورها.

الفرق بين النقل وإيصال المعنى، هو الفارق بين من يُلقى خطابا بلغة أجنبية، وبين من يُلقيه بلغة أجنبية ويُحسَنُ إيصال روحه ليجعل معناه محسوسا كما لو قيل بلغته الأم. وبين من يقدّم طبقا من الطعام كما هو، وبين من يشرح لك طقوس إعداده، وأسباب مكوناته، وقصته فى الذاكرة الشعبية وسياقه الثقافى.

تُدرك المؤسسات الثقافية اليوم أن دورها لا يقتصر على الترويج لمظاهر الثقافة، بل على توسيع مساحة الفهم بين الشعوب، تقريب المسافات، وبناء الجسور، فهى لا تنقل العناصر الثقافية كما هى فحسب، بل تعمل على شرح سياقاتها، وتفسير رموزها، وتقديمها بما يعكس معناها الحقيقى. وهنا تتجلّى قيمة من يملك وعيا مزدوجا: يفهم ثقافته جيدا، ويفهم ثقافة الآخر بنفس القدر. يُجيد التعبير عن ثقافته كما هى، ويُحسن مخاطبة الآخر بلغته ومنظومته الثقافية والفكرية.

وهؤلاء ليسوا مجرد مترجمين لغويين.. بل هم رُسل للثقافة. يَعبُرون بالمعانى بين العوالم، ويفككون الالتباسات، ويجعلون الاختلاف مفهوما لا مرفوضا. وربما هذا هو التحدى الحقيقى اليوم: ألّا نظن أن الوصول للجماهير بالضرورة يعنى إيصال المعنى، وأن الحضور يعنى التأثير. فكم من رسالة عبرت القارات، لكنها لم تُفهَم لأنها لم تُترجم ثقافيا. وكم من خطاب لامس القلوب، لأنه لم يكتفِ بالكلمات، بل أدرك كيف يُعيد تشكيل وبناء المعنى.

فى النهاية، نحن لا نعيش فقط عصر التواصل، بل عصر ترجمة ما وراء اللغات، حيث يُنقَل المعنى بكل ما فيه من شعور، وسياق، وهوية. وهذه ليست ترجمة تُنتجها الحروف، بل وعى يُبصر ما لا تقوله الكلمات.

فما لا تنطقه الألسنة.. تبوح به الثقافات.

التعليقات