سوق الخضار - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 7 مايو 2024 2:18 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سوق الخضار

نشر فى : الخميس 21 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 21 فبراير 2013 - 8:00 ص

ما زلت أذكر هذه الواقعة كأنها حدثت بالأمس. كان ترتيبى فى التخرج قد سمح لى بأن أُعين معيدا فى القسم الذى تخرجت فيه بعد زميلى العزيز الذى سبقنى فى ترتيبه على الدفعة، وكان رئيس القسم هو أستاذى الدكتور بطرس بطرس غالى أمد الله فى عمره، وكنا ننظر إليه بانبهار لعلمه ومكانته الدولية، ومن بين أهم الأعمال المتميزة لهذا الأستاذ الجليل جاء دوره فى إصدار ورئاسة تحرير مجلة السياسة الدولية عن مؤسسة الأهرام فى عصرها الذهبى الذى أبدع فيه الأستاذ هيكل كما لم يبدع أحد، وظلت هذه المجلة منذ نشأتها وحتى الآن متفردة فى الوطن العربى ترقى إلى مصاف المجلات الدولية المماثلة بل وتفوقها أحيانا كثيرة. تعود دكتور بطرس غالى أن يتخير من بين الأجيال الجديدة من يتوسم فيه القدرة على المساهمة فى الكتابة للمجلة، ولذلك كانت سعادتى وزميلى غامرة لوقوع الاختيار علينا، وكان المعتاد أن نبدأ بكتابة تقارير صغيرة قبل أن تبلغ الثقة بنا حد تكليفنا بكتابة دراسات مثل الأساتذة ذوى الخبرة، وفى إحدى المرات أُجِلَ نشر تقرير زميلى العزيز، وكان معنى هذا أن ينتظر ثلاثة شهور كاملة حتى يُنشَر فى العدد التالى، وقد قبل ذلك على مضض لكنه استغل الوقت المتاح فى المبادرة بكتابة دراسة اختار موضوعها، وفى الموعد المحدد لتسليم أعمالنا ذهبنا إلى المجلة لكى يقدم دراسته وأقدم أنا تقريرى الجديد. حاولت سكرتيرة التحرير الزميلة العزيزة نبية الأصفهانى أن تقنعه بأن تقريره القديم سوف يُنشَر فى العدد الجديد ومن ثم فإنه لا مجال لنشر الدراسة، فأجابها بأنه يريد أن «يشيل ده ويحط دى»، وفى هذه اللحظة تحديدا دخل الدكتور بطرس غالى واستمع إلى هذه العبارة وانتزع على الفور الدراسة من يد الزميل العزيز قائلا: «إحنا مش فى سوق خضار. دى مجلة علمية لها سياستها». هذا عن إدارة مجلة علمية منذ أكثر من أربعين عاما فماذا عن إدارة وطن؟

 

•••

 

بدأت قصتنا مع «سوق الخضار» بمحاولة رئيس الجمهورية أن يتخلص من النائب العام السابق بطريقة صُوِرَ له أنها قانونية، وذلك بتعيينه سفيرا لمصر لدى الفاتيكان، لكن السفير الموعود رفض وأيدته فى ذلك جمهرة من القضاة على النحو الذى جعل رئيس الجمهورية يتراجع إلى حين حتى أشار عليه مستشارو السوء بأن يصدر الإعلان الدستورى المشئوم الذى حلل قانونيا التخلص من النائب العام بالنص على ألا تتجاوز مدة بقائه فى منصبه أربع سنوات، وعلى أن يتم ذلك بأثر رجعى بحيث أصبح النائب العام فى الهواء ولكن هذه المرة دون سفارة، وظلت سفارة مصر فى الفاتيكان باقية إلى أن عيَن فيها رئيس الجمهورية نائبه المنتهية ولايته بحكم الدستور الجديد الذى لا يتضمن منصب نائب لرئيس الجمهورية أصلا، ورغم اختلاف السياق ما بين إعطاء المنصب «لعدو» لإسكاته ومنحه «لحبيب» لتعويضه فإن الدلالة السياسية تبقى واحدة، وهى منطق «سوق الخضار»، ففى الحالتين كان من شأن تعيين كهذا أن يعيدنا عقودا طويلة إلى الخلف حين كانت مناصب السفراء تستخدم إما لإبعاد خصم يُخشى تأثيره فى الداخل أو مكافأة لمن قدم خدمات يرى صانع القرار أنها تبرر منحه هذه الغنيمة. حدث هذا منذ السنوات الأولى لثورة يوليو، وإن يكن عدد ممن عينتهم قيادة الثورة فى مناصب دبلوماسية قد قدم خدمات جليلة للوطن مثل المرحوم ثروت عكاشة الذى بدأ ملحقا عسكريا فى جنيف وقدم أثناء شغله هذا المنصب وغيره ما ساهم فى تحقيق الأمن القومى لوطنه إلى أن وصل إلى ذرى الدبلوماسية الدولية من خلال منصب السفير فى إيطاليا وفرنسا، وهو ما أضاف إلى مساهماته بعدا غير مسبوق بالدور الذى لعبه فى منظمة اليونيسكو، وكذلك المرحوم حافظ إسماعيل الذى لا يمكن الحديث عن التاريخ المعاصر للخارجية المصرية دون ذكر ما قام به من أعمال أثناء توليه المنصب الدبلوماسى، ومع ذلك فإن منطق «الغنيمة والعقاب» ظل موجودا، فحلم الرئيس السابق بمنصب سفير مصر لدى المملكة المتحدة حتى يعيش «عيشة الإكسلنسات»، واختار الرئيس السادات أن يعين خصمه اللدود الفريق سعد الشاذلى سفيرا لمصر لدى يوغسلافيا، وهكذا إلى أن أعادنا رئيس الجمهورية الحالى إلى هذا المنطق. ليس الاعتراض على هذا المنطق ما دام من موقف شخصى تجاه المعينين، ولكن المشكلة تتعلق بصميم العمل المؤسسى، فالخارجية ليست مطية لكل من ترى الرئاسة أن تلحقه بها، لكنها مؤسسة عريقة لها معاييرها التى يجب أن تنطبق على كل من يدخلها، فما الذى يربط اثنين من رجال القانون البارزين بالعمل الدبلوماسى الذى يحتاج معرفة وخبرة لا يمكن أن تتوفرا لهما؟ ولنتصور ما الذى يمكن أن يصيب الدبلوماسية المصرية من دمار لو امتد منطق «سوق الخضار» إلى عدد مؤثر من سفرائنا بالخارج.

 

•••

 

ثم برز هذا المنطق مؤخرا فى تعيين المتحدث الرسمى باسم الرئاسة مديرا لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء. إن المرء يغادر منصبه إما لمنصب أرفع فى المجال نفسه نتيجة تفوقه وإما لقصور فى عمله، واللافت هنا أن الرجل لا يمكن أن يكون مناسبا بالمرة لموقعه الجديد، فهو طبيب أمراض جلدية سوف يتولى موقعا شغله حملة الدكتوراه فى مجالات نظم المعلومات والاتصالات والإحصاء وهندسة الاتصالات، فأين مديرنا الجديد من هذا كله؟ يلاحظ أنه جرت محاولات شتى لإظهار أنه حاصل على دراسات تكميلية تبرر شغله المنصب، فقيل أولا إنه حاصل على دبلوم الإعلام من جامعة القاهرة، ولا علاقة لهذا أيضا بموقعه الجديد، ثم تحول هذا الدبلوم بقدرة قادر إلى دبلوم فى الإدارة وفى مجال المعلومات، وأضافت رواية أخرى أنه حاصل على دكتوراه فى الإدارة، وكلها (عدا دبلوم الإعلام) معلومات مغلوطة لا تغيّر من أهلية الرجل لتولى المنصب شيئا، لكن أطرف ما قيل فى هذا الصدد أنه كان منسقا لمشروع النهضة فى حزب الحرية والعدالة!

 

•••

 

فى هذه الواقعة تجاوزنا منطق «سوق الخضار» بكثير، فقد كانت هناك تكييفات للقرار تركز على أنه جاء بإرادة رئيس الجمهورية سواء رغبة فى إبعاد المتحدث الرسمى عن دائرة الهجوم المستمر أو تنفيذا لمخطط للرئاسة يهدف إلى السيطرة على الهيئات المعلوماتية والإعلامية علما بأن بين الإخوان من يمتلك قدرات حقيقية تؤهله لشغل المنصب، لكن مصادر أخرى حرصت على التأكيد بأن القرار كان قرار المتحدث الرئاسى نفسه، وأنه هو الذى اختار موقعه الجديد، وأكد المتحدث الرئاسى ذاته أن التعيين كان بناء على طلبه، وهى طريقة جديدة للتجنيد للوظائف القيادية تشير إلى خلل فادح فى عملية صنع القرار، وتنذر بخطر جسيم. قيل الكثير فى أسباب خروج المتحدث الرئاسى من موقعه، وهو أمر لا يعنينا فى هذا السياق، وإن كان جديرا بالذكر أن المصادر الرئاسية حاولت المستحيل لكى تثبت أن الرجل كان متفوقا فى عمله، فلماذا ترك المنصب إن كان الأمر كذلك؟ خاصة أن منصب المتحدث الرسمى باسم الرئاسة ليس بالمنصب الهين، وكان يحتمل تفوقه هذا وأكثر، كما قيل الكثير عن هيئة تحل محله، وهو أمر لا يعنينا لأنه يتعلق بتنظيم داخلى للعمل مادام أن شخصا واحدا سيظهر بعد ذلك ليتحدث باسم الرئاسة وإلا آل الأمر إلى فوضى ضاربة فى موقع لا يحتمل هذه الفوضى. ما يعنينا أن معايير «سوق الخضار» إن صح أن تسمى معايير تهدد عملية صنع القرار فى مصر كما تهدده أمور أخرى كقلة المعرفة ومحدودية الخبرة وسوء المشورة، وهو خطر جسيم يضاف إلى ما يعانيه الوطن من أخطار فى ظل الحكم الراهن. 

 

 

 

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومدير معهد البحوث والدراسات العربية

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية