التلميذ والأستاذ - محمد زهران - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التلميذ والأستاذ

نشر فى : السبت 21 مايو 2016 - 10:50 م | آخر تحديث : السبت 21 مايو 2016 - 10:50 م
العلم في حد ذاته ممتع، وكما قال أحد العلماء الأقدمين (كما هو مذكور في كتب الأدب العربي) أنه لا فرحة تعادل "حجة تتبختر اتضاحا، وشبهة تتضاءل افتضاحا"، وهي جملة بليغة وجميلة حتى وإن لم تفهم كل كلماتها.. فقد كنت مثلا أستمتع بسماع برنامج غواص في بحر النغم للأسطورة عمار الشريعي وأنا لا أفهم شيئا في الموسيقى غير سماعها!

ولكن إذا كان اشتغالك بالعلم من باب الاستمتاع فقط وقضاء وقت جميل فلن تتقدم في مجالك بالقدر الكافي ولن تترك تأثير يذكر، مثل من يلعب الشطرنج يوميا لعدة ساعات للاستمتاع، سيستمتع ولكن مستواه لن يتقدم إلا إذا درس أخطاؤه وتدرب بطريقة صحيحة، أي أنه يحتاج لمدرب.. وهذا هو بيت القصيد!

كى تتقدم في مجالك العلمي وتنال درجتك العلمية وتفيد بها المجتمع فلابد لك من أستاذ.. هذا منطقي ولا يحتاج إلى جدال، فالمتعلم لابد له من معلم على الأقل حتى يضع قدمه على الطريق الصحيح. ولكن ماذا يستفيد الأستاذ؟

العلماء لهم عدة دوائر تأثير، الدائرة الأولى هي نشر أبحاثهم العلمية في المجلات وتقديمها في المؤتمرات، وهذه دائرة ضيقة لأهل التخصص وفائدتها طبعا معروفة وهي دفع عجلة العلم في هذا التخصص، الدائرة الثانية هي التدريس في قاعات المحاضرات وهي دائرة أكبر قليلا من الدائرة السابقة ولكنها محصورة في الطلبة الذين يدرسون هذا التخصص، وفي هذه الدائرة عدة فوائد للأستاذ: أولاً تجعله يتأكد بشكل متواصل من دقة وقوة معلوماته والانتباه إلى أي نقص في معرفته ومعالجته، وثانيا قد تفتح الباب لبحث جديد لأن الطلبة قد تسأل أسئلة قد تدفع الأستاذ للتفكير فيها والعثور على سؤال بحثي، واهتمام الأستاذ بطلبته يمتد خارج قاعة المحاضرات إذا شاركهم في بحث علمى أو أشرف على رسالتهم للماجستير أو الدكتوراه وهنا تظهر فائدة أخرى للأستاذ وهي أنه ترك من سيكمل المسيرة من بعده وهذا إنجاز لا يقل عن نشر الأبحاث العلمية، هناك دائرة أوسع من التدريس في قاعات المحاضرات وهي إلقاء المحاضرات أو كتابة الكتب والمقالات للعامة، والأستاذ هنا ينشئ مجتمعا علميا، ومن أمثلة الأساتذة الذين يصلون إلى هذه الدائرة جانا ليفين (Janna Levin) فهي أستاذة في جامعة كولومبيا في نيويورك ولها أيضاً عدة كتب في الفيزياء للعامة وعندنا في مصر أستاذنا الدكتور أحمد مستجير رحمه الله، فبخلاف أبحاثه في مجال الأحياء، من منا لم يقرأ كتبه "في بحور العلم" مثلا؟ وأخيرا هناك الدائرة الأوسع وهي استخدام أبحاثك للتأثير في صانعى القرار، وهذا موضوع سنناقشه في المستقبل لأهميته وأحب أن ألفت النظر هنا أن هناك كتابا نشر في أمريكا العام الماضي (2015) اسمه "The Public Professor: How to Use Your Research to Change the World" أو "الأستاذ العام: كيف تستخدم أبحاثك لتغيير العالم"، من تأليف لي بادجت (M. V. Lee Badgett) عن دار نشر جامعة نيويورك، وهذا الكتاب يناقش كيف توصل أبحاثك لصانعي القرار، وللحديث بقية في هذا الموضوع، ولنأخذ مثالا على أهمية ترك من يكمل المسيرة.. من الأستاذ للتلميذ.

كلنا نعرف عالمنا الكبير الأسطوري الدكتور علي مصطفى مشرفة ونعلم إسهاماته في المجال العلمي والعام ولكن إسهامه في تنشئة طلاب علم يكملون المسيرة لم يأخذ حقه، تحدثنا في السابق عن الدكتورة سميرة موسى واليوم نلتقي مع أحد طلاب الدكتور علي مصطفى مشرفة وهو عالم الرياضيات الفذ الدكتور محمد مرسي أحمد.

الدكتور محمد مرسي أحمد ولد في 1 ديسمبر 1908 بمحافظة سوهاج وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بأسيوط ثم التحق بكلية العلوم بجامعة القاهرة (كان اسمها الجامعة المصرية آنذاك ثم جامعة فؤاد ثم أخيرا جامعة القاهرة) عام 1925 وتخرج فيها عام 1929، وقد عمل معيدا تحت إشراف الدكتور مشرفة بل وتشارك معه في تحقيق كتاب "الجبر والمقابلة للخوارزمي"!

ثم سافر في بعثة دراسية إلى إنجلترا حيث حصل على درجة الدكتوراه في الرياضيات من جامعة أدنبره عام 1931، وهو وإن كان لم يعمل في رسالته للدكتوراه مع الدكتور مشرفة إلا أن عمله معه أثناء البكالوريوس وأثناء عمله كمعيد كان له تأثير كبير، فالأستاذ ليس فقط هو مشرف الماجستير أو الدكتوراه، أنت قد يكون لك تأثير كبير جدا على طلابك دون أن تشرف على رسائلهم العلمية.

عاد الدكتور محمد مرسي أحمد من البعثة فاشتغل بالتدريس في كلية العلوم، حتى وصل إلى منصب أستاذ الرياضة البحتة، وله أبحاث قيمة للغاية في الرياضيات البحتة في مجلات مرموقة في أوروبا (في ذلك الوقت لم تكن أمريكا قد دخلت الساحة بكل قوتها بعد)، وأنشأ مدرسة علمية كبيرة تتلمذ عليه فيها الكثير من الجيل التالي لعلماء الرياضيات في مصر.. فالتلميذ أصبح أستاذا وأخذ يعد من سيكملون المسيرة.

للدكتور محمد مرسي أحمد باع طويل في العمل العام، فقد عين عميدا لكلية العلوم عام 1956، ثم وكيلا لجامعة القاهرة عام 1958، ثم مديرا لجامعة عين شمس ثم أمينا لاتحاد الجامعات العربية، ثم وزيرا للتعليم العالي، كما اشترك في تأسيس الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية، واشترك في إنشاء جامعة الرياض بالمملكة العربية السعودية، والقائمة تطول.

فرحم الله الدكتور محمد مرسي أحمد، الذي توفي في 18 أغسطس 1989 عن عمز يناهز 80 عاما، ورحم كل من ترك طلابا يكملون المسيرة العلمية مثلما ترك أبحاثا.

 

محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات