بل شىء أصنعه لكـم - جمال قطب - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 7:57 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بل شىء أصنعه لكـم

نشر فى : السبت 21 أغسطس 2010 - 1:57 م | آخر تحديث : السبت 21 أغسطس 2010 - 1:57 م

 وهذا موقف آخر أو مقام من مقامات البيان النبوى.. وهو مقام بذل المشورة واقتراح الرأى على من يحتاج إليه.. كان ذلك فكرة جالت بخاطر الرسول (صلى الله عليه وسلم) حينما رأى اجتماع الأحزاب على قرار غزو المدينة، فبعد أن أعد العدة وحفر الخندق وجيش الجيش وأقام حراسة خاصة داخل المدينة لحماية النساء والأطفال.. بعد ذلك كله فكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أن يفكك هذا الجمع،

إذا عرض على بعضهم شيئا من متاع الحياة الدنيا لعلمه (صلى الله عليه وسلم) بما فى هؤلاء من طمع.. فبادر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مبادرة إنسانية شخصية، فأرسل رسالة خاصة إلى زعماء قبيلة غطفان وحلفائها وعرض عليهم المصالحة بدلا من الحرب على أن يرجعوا عن المدينة ويأخذوا «جعلا» (إتاوة) سنوية بمقدار ثلث ثمار المدينة، فقبل هؤلاء الزعماء هذا العرض وكتبوا صيغة العقد الذى يجب التوقيع عليه، وأرسلوها للنبى (صلى الله عليه وسلم) والمعروف بداهة أن هذا التصرف النبوى محض اقتراح غير مقترن بعزيمة التنفيذ لأنه لا يمكن له (صلى الله عليه وسلم) أن يعزم على أمر لا يملكه، وثمار المدينة ملك لأهلها؛ الأوس والخزرج وينوب عن القبيلتين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة،

فلما جاء مشروع العقد الذى كتبه قادة غطفان، أرسل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى السعدين (زعماء المدينة) وعرض عليهما اقتراحه وموافقة غطفان: هنا نعاين الفقه الغالى مع الأدب العالى والنطق المثالى: قال السعدان: يا رسول الله أهذا الذى فعلته أمر تحبه فصنعته، أم شىء أمرك الله به لا بد لنا من الطاعة والتنفيذ؟ وحينئذ جاء رد الرسول: «بل شىء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلى أمر ما.

فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء على الشرك بالله، وعبادة الأوثان، لا نعبدالله ولا نعرفه ولم يطمعوا أن يأكلوا منها ثمرة إلا بيعا أو شراء أفحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام وهدانا إليه وأعزنا به وبك نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.

 
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأنت وذاك، فتناول سعد صحيفة العقد فمحا ما فيها.. وانتهت فكرة التصالح.. هكذا يكون الفقه باحثا عن مصدر الكلام والدافع إليه، وهكذا يكون الأدب بالسؤال عن رغبة النبى (صلى الله عليه وسلم) وما يحبه. ومع السؤال والاستفهام نلمح الاستعداد الكامل للطاعة والامتثال.

هل عرفت معى أهمية الفقه وعقلية الفقهاء؟ هل رأيت وسمعت تمييز السعدين (ابن معاذ وابن عبادة) لمقامات القول والبيان النبوى؟ وإذا غمّ عليهما أمر استفهما واستوضحا؟ هل رأيت وسمعت وتعلمت معى من البيان النبوى كيف يكون التعبير واضحا؟
هذا هو بيت القصيد ونضع الحوار متتاليا لنتعلم: فهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتلقى مشروع عقد الصلح الذى بادر هو باقتراحه على غطفان وقبلته غطفان وكتبت العقد ويعرضه (صلى الله عليه وسلم) على السعدين

ويقول السعدان: يا رسول الله أهذا الذى فعلته أمر تحبه فصنعته، أم شىء أمرك الله به لا بد لنا من الطاعة والتنفيذ؟ فيجىء الرد مباشرة بل هو شىء أصنعه لكم. بيان واضح: فقد نفى ما يفترضه السعدان: فهذا المشروع شىء لا يحبه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا يبغيه كما أنه ليس من الوحى والالزام والنبوة بل هو مجرد اقتراح يعرضه حلا للأزمة مراعيا أصحابه حتى يخفف عنهم ويطمئن على عزيمتهم.

هكذا يتحلل السعدان من أى التزام وأى حرج فها هو الرسول (صلى الله عليه وسلم) والقائد المعلم يعلن أن ما صنعه من تدبير هو اقتراح لا دخل للوحى به ولا معصية فى رفضه، ثم يفرح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعزيمة أصحابه ويسوق الله النصر.

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات