كتب يزيد صايغ ــ باحث رئيسى بمركز كارنيجى فى بيروت ــ دراسة نشرها المركز يتناول فيها قضية إصلاح القطاع الأمنى فى دول الربيع العربى بشكل عام، مشيرا إلى حالتى مصر وتونس، عارضا كلا من التجربتين فى محاولة لتفسير عدم قيام كل من البلدين بإجراءات من شأنها إعادة هيكلة وإصلاح أجهزتها الأمنية. ويبدأ صايغ فى البداية بالحديث عن ضياع فرصتين لمصر وتونس فى إصلاح الشرطة.
حيث بشّر الربيع العربى بفرصتَين مهمتَين للشروع فى عملية إصلاح هادفة وبنّاءة للقطاع الأمنى فى كل من مصر وتونس. كانت الفرصة الأولى عقب الانتفاضتين مباشرة، عندما كان الدعم الشعبى فى أكثر حالاته تعبئة، الأمر الذى عوّض عن هشاشة الحكومات المؤقتة الأولى وضعف شرعيتها. أما الفرصة الثانية فكانت مع انتخاب المجلسين التمثيليين والحكومتين الانتقاليتين الجديدتين فى مصر وتونس فى العامين 2011 ــ 2012، والتى كانت تحظى بشرعية أقوى من سابقاتها وبدافع للاستجابة للآمال الشعبية.
•••
يوضح صايغ فى دراسته أن إصلاح القطاع الأمنى مثل تحديا رئيسيا فى مصر وتونس وليبيا واليمن، البلدان الأربعة التى مرّت بفترة انتقالية فى أعقاب الربيع العربى، بيد أن عوامل عدّة وضعت مصر وتونس فى فئة منفصلة. وعلى الرغم من أن القطاع الأمنى فى البلدين سار فى البداية على غير هدى بفعل فقدان شبكات المحسوبية غير الرسمية التى كانت تربطه سابقا بالحزبين الحاكمين ــ الحزب الوطنى الديمقراطى فى مصر والتجمّع الدستورى الديمقراطى فى تونس ــ فقد منحه هذا الوضع فى نهاية المطاف مزيدا من الاستقلالية عن السلطات الجديدة.
وبالقدر نفسه من الأهمية، يرى صايغ أنه لم تتمحور الصراعات السياسية بعد الانتفاضة على القطاع الأمنى بالطريقة المدمّرة فى النهاية كما فعلت فى ليبيا واليمن. كما أنها لم تشكّك فى طبيعة ووجود الدولة المركزية، التى حافظت على وظائفها البيروقراطية الاعتيادية خلال الفترة الانتقالية، والتى استمر المجتمع يتطلّع إليها من أجل إنفاذ القانون. علاوة على ذلك، فى مصر وتونس جاءت المجالس التشريعية والتأسيسية الجديدة والرؤساء المؤقّتون غير الملّوثين بالتبعية للأنظمة السابقة إلى الحكم من خلال انتخابات عامة تنافسية، ما منحهم شرعية حقيقية.
ويؤكد صايغ أنه كان يمكن ترجمة الأهداف العريضة لإصلاح قطاع الأمن فى البلدين – أى تطوير الكفاءات والقدرات المهنية، علاوة على ضمان تحقيق العدالة الانتقالية – إلى إجراءات عملية ملموسة. وشملت هذه مراجعة القوانين المنظِّمة للشرطة وتشكيل الفرق الرسمية المختصة بإعادة الهيكلة فى داخل وزارات الداخلية. وكان يمكن تحسين التدريب والقدرات المختبرية، إضافة إلى الرواتب وظروف الخدمة، كجزء من حزمة إجراءات تشمل أيضا وضع المعايير لقياس أداء الشرطة وامتثالها للقانون وحقوق الإنسان.
كما شملت الإجراءات العملية الممكنة كذلك مراجعة سياسات الدخول إلى الخدمة، والتحقيق بالأفراد المتهمين بارتكاب الخروقات والمخالفات السابقة، وتعديل الدساتير لتأكيد الصفة المدنية للشرطة كجهاز مناط بالخدمة العامة تحت إشراف الهيئات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وكان لابدّ من ضمان الشفافية الكاملة، وبالتالى كان ينبغى أن تسير العملية الإصلاحية برمّتها تحت إشراف لجان تتكون من وزراء الداخلية، ورؤساء فرق إعادة هيكلة قطاع الأمن، والقضاء والنيابة العامة، وممثلى الأحزاب المنضوية فى الحكومة والمجتمع المدنى.
ويشير صايغ إلى أن الإرث السلطوى لقطاع الأمن واستقلاليته المؤسّسية، وشعوره بالاستياء فى أعقاب الربيع العربى، جعل منه خصما يحتمل أن يكون خطرا. فى المقابل، كانت الحكومات الجديدة تفتقر إلى الخبرة فى الحكم أو إدارة التغيير، ولاسيّما فى القطاع الأمنى. ونتيجة لذلك، أصبحت مهادنة القطاع الأمنى وضمان حياده السياسى شعار ومسعى الحكومات الانتقالية المتعاقبة، بدلا من إصلاحه. ولذا فقد سمح التأخير فى متابعة عملية الإصلاح الجدّى والتدابير الفاترة التى تم اتّخاذها للقطاع الأمنى بالتحصّن، فضاعت الفرصة.
•••
ويبين صايغ أن الطريقة التى تطورت من خلالها الديناميكيات السياسية الانتقالية فى مصر وتونس قوَّضت الفرصة فى ما يتعلَّق بإصلاح قطاع الأمن، مقسما تلك الديناميكيات إلى ما يلى:
الفترة الانتقالية الأولى: كانت الحكومات المؤقتة التى تشكّلت فى أعقاب الانتفاضات مباشرة تتكوّن فى الغالب من مسئولين من عهدَى مبارك وبن على. كانت تلك الحكومات هيئات غير منتخبة مهمتها تسلُّم وتسليم السلطة وتفتقر إلى التفويض الشعبى أو الشرعية السياسية اللازمة للبدء فى إصلاحات هيكلية كبرى فى أى قطاع، بما فى ذلك الأمن. وقد كانت محافِظة بطبيعتها، تفضِّل الاستقرار والاستمرارية على التغيير الثورى المزعزِع للاستقرار.
حيث ركّزت الإصلاحات الأولية التى قامت بها بالتالى بشكل حصرى تقريبا على إجراء تغييرات تجميلية إلى حدّ كبير تمثّلت فى تطهير أو إعادة تكليف أعداد صغيرة نسبيا من الضباط وإعادة تسمية أجهزة الأمن السياسى.
الاستقطاب السياسى: حظيت الحكومات الانتقالية اللاحقة بقدر أكبر من الشرعية بحكم أنها كانت منتخبة، بيد أنها وجدت صعوبة فى مواصلة إصلاح القطاع الأمنى وسط اشتداد حالة الاستقطاب السياسى. كان ذلك ينطبق بشكل خاص على جماعة الإخوان المسلمين فى مصر ونظيرتها الإسلامية فى تونس، حركة «النهضة»، واللتان كانتا تمثّلان فى السابق الأهداف الرئيسة للدول «الأمنوقراطية» ــ على حد وصف الباحث ــ فى عهدَى مبارك وبن على، وأصبحتا الحزبين الرئيسيين فى الحكومة.
وقد أثارت محاولات الجماعتين الرامية إلى استبدال كبار المسئولين فى وزارة الداخلية أو غيرها من المؤسّسات الحكومية اتهامات من قِبل منافسيهما العلمانيين ــ الذين تحالف أنصار النظام القديم معهم ــ والنشطاء الثوريين بالسعى إلى «الاستحواذ» على قطاع الأمن و«أَسْلَمَته». وعندما ردّت حركتا الإخوان المسلمين والنهضة على إحجام أجهزة الشرطة عن استئناف مهامها بصورة كاملة، عبر اقتراح وسائل بديلة أو رديفة لمعالجة تزايد حالات الخروج على القانون والجريمة، أدّى ذلك إلى اتهامات لا تخلو من التهويل بأنهما تسعيان إلى بناء هياكل أمنية «موازية» و«شرطة آداب» إسلامية (مطوِّعين).
الغثّ مقابل السمين: أسفر ميل القوى السياسية الانتقالية نحو النظر إلى إصلاح القطاع الأمنى ضمن تصنيف علمانى ــ إسلامى عن كبح النقاش المثير للجدل ولكن بالغ الأهمية بشأن مدى وسرعة القيام بالعملية الإصلاحية. بالنسبة إلى البعض، كان «استمرار الثورة»، على حدّ قولهم، يتطلب تطهير جميع مسئولى النظام السابق. غير أن آخرين كثرا شدّدوا على ضرورة الإبقاء على العاملين الأمنيين المدرّبين مهنيا وعلى الهياكل القائمة بغية الحفاظ على المهارات والخبرات اللازمة لإنفاذ القانون بصورة فعاّلة.
وشمل ذلك الأشخاص الذين سعوا حقا إلى الحوكمة الديمقراطية لقطاع الأمن، فضلا عن الذين استغلّوا الخلاف لعرقلة حصول أى تغيير حقيقى. كانت الحكومات الانتقالية فى مصر وتونس محقّة فى عدم خسارة ما وصفه بـ«السمين» فى القطاع الأمنى، ولكنها فشلت فى نهاية المطاف فى التخلّص من ما وصفه بـ«الغثّ» فى النظام السابق.
مكافحة الإرهاب وإحياء ثقافة الحصانة: أسفر الفشل فى تصميم وإطلاق أجندات الإصلاح التى تحتوى على بعض أو جميع الإجراءات العملية المذكورة أعلاه عن تبدُّد التقبُّل المحتمَل للتغيير لدى عناصر قطاع الأمن، فازداد امتعاضهم وانكفأوا إلى نظرة عدائية تجاه المواطنين مجدّدا. كما حلَّ صعود أجندات مكافحة الإرهاب ردّا على خطر العنف الجهادى الداخلى والعابر للحدود محلّ أى أمل فى إحياء أجندة إصلاح قطاع الأمن. وعندما أعاد القطاع الأمنى تنظيم صفوفه، استخدم الحجّة المشروعة القائلة بضرورة عدم تسييسه، لكى يقاوم أى محاولة من جانب الحكومة لجعله شفافا وخاضعا للمساءلة. فسمح ذلك لثقافة الحصانة، أى الإفلات من المساءلة القانونية، داخل القطاع الأمنى بإعادة تأكيد نفسها.
•••
وفى النهاية يرى الباحث أن معارضة قطاع الأمن للتغيّرات التى تؤثر على مصالحه الأساسية واستقلاليته، سوف تجعل تقديم بعض التنازلات أمرا لا مفرّ منه. إلا أنه ينبغى على الحكومات الانتقالية ألا تتنازل عن قضايا حَرِجة، مثل وضع حدّ لحصانة القطاع أو ممارسة حقها فى وضع سياساته وميزانياته وإجراء تعيينات القيادة العليا أو المصادقة عليها.
ويرى أنه فى البلدان التى تمرّ فى الانتقال السياسى، والتى تعانى من إرث عدم الثقة العميق والاستقطاب السياسى والمجتمعى الشديد، إنه من الضرورى للأحزاب المُشارِكة فى الحكومة أن تتجنّب جعل القطاع الأمنى (أو القضاء بصورة خاصة) موضع خصومة وتنافس فيما بينها. وقد يعنى هذا تعيين وزراء داخلية محايدين حقّا بغية طمأنة المعسكرات السياسية الأخرى، فضلا عن القطاع الأمنى نفسه، مع الإصرار على تبنّى معايير إصلاحية واضحة يتم بموجبها قياس الأداء.
كذلك، فإن عملية إصلاح قطاع الأمن تتم ــ إلى حدّ كبير ــ من أعلى إلى أسفل من حيث التصميم المؤسّسى، وصنع السياسات، وضمان الامتثال، غير أن من الأهمية بمكان إشراك الأحزاب السياسية والمجتمع المدنى ووسائل الإعلام بهدف بناء توافق عريض فى الآراء وإحداث ضغط مكمّل على القطاع الأمنى على جميع المستويات.