العبث بتراث العقاد - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:00 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العبث بتراث العقاد

نشر فى : الجمعة 22 أبريل 2016 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 22 أبريل 2016 - 9:35 م
شىء رائع أن تصدر طبعات جديدة من تراث أعلام الثقافة العربية فى العصر الحديث؛ كلنا نطالب دائما بأن تتاح هذه الكتب والأعمال أمام الأجيال الناشئة، وأن تكون دائما فى مجال رؤيتهم وفى الصدارة مما يُرشح لهم كى يقرأوه ويقبلوا عليه، خاصة تراث مثقفينا الذين سقطت حقوق الملكية الفكرية عن مؤلفاتهم وأعمالهم لمرور 50 عاما على وفاتهم، وباتت ملكية عامة يحق لمن أراد أن يُصدرها فى طبعات جديدة (مثل؛ أحمد أمين، زكى مبارك، سلامة موسى، محمد حسين هيكل، المازنى.. وغيرهم).

وعباس محمود العقاد (1889ــ1964) واحد من هؤلاء الكبار، الذين نسعد بوجود أعماله ومؤلفاته دائما فى طبعات جديدة، وقد توالت منذ نحو عام أو يزيد بعد أن أصبحت مؤلفاته ملكية عامة، طبعاتٌ من كتبه صدرت عن دور نشر رسمية وخاصة، وما زالت تصدر حتى الآن.

كل هذا رائع وممتاز، ولا غبار عليه، لكن (وآه من لكن هذه) دائما تحمل معها وتجر وراءها أذيالا وحواشى لا داعى لها، مزعجة وسخيفة، فكل أمر لدينا مهما بدا بسيطا وسلسا ولا يستدعى كثيرَ جهد فى التعامل معه لكى تسير الأمور على ما يرام، يصبح قابلا لإثارة مشكلة ما إما بسبب غياب المعرفة الكافية والوافية وإما بسبب النظرية الشهيرة التى راجت لدى المصريين فى العقود الأخيرة «عايز أحط التاتش بتاعى.. وأَجَوِد»!!..

عموما وبدون استطرادات، فقد ساءنى بشدة ما علمته من صدور طبعة جديدة من (عبقريات العقاد) الشهيرة، لكنها حملت فى ظنى ما أعده «عبثا» غير مقبول بتراث الرجل، وتلاعبا (سواء كان بوعى وفى هذه الحالة يصل الأمر إلى تخوم الجريمة.. أو بدون وعى وهذه جريمة أخرى لا تقل كثيرا عن سابقتها).

الحكاية تعود إلى فترة وجيزة عندما قامت إحدى دور النشر بالإعلان عن إصدار طبعة جديدة من (عبقريات العقاد)، هكذا جاء إعلانها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعى، وهكذا كشفت أغلفتها الجديدة لهذه الطبعة من العبقريات، وإلى هنا فالأمر لا يثير أى شىء غريب أو لافت؛ فقط ما شدنى عنوان واحد من هذه العبقريات المعلن عن إصدارها.. «عبقرية عثمان» (هكذا)، وجدتُ هذا العنوان ضمن العبقريات الأخرى المعلن عنها وهى: «عبقرية محمد»، «عبقرية الصديق»، «عبقرية عمر»، «عبقرية الإمام على» (هكذا على الغلاف)، و«عبقرية خالد». ووقفت أمام عنوان «عبقرية عثمان» كثيرا، كان للأمر أن يمر ولا يثير غرابة ولا استغرابا لكننى أعلم أن العقاد لم يكتب كتابا بهذا الاسم.

فمن أين أتى هذا الكتاب؟ ومن أين جاءت هذه العبقرية الجديدة؟!

هذه أول مرة أعرف أن للعقاد كتابا بعنوان «عبقرية عثمان»!! ما أعرفه يقينا أن العقاد لم يكتب أبدا كتابا بهذا الاسم.. وكل من قرأ كتب العقاد سابقا، أو اتصل بتراثه يعلم أن له كتابا عن عثمان بن عفان (رضى الله عنه) عنوانه «ذو النورين ــ عثمان بن عفان» لكنه لم يدرجه ضمن عبقرياته، فللعقاد نظرية كاملة فى هذا الموضوع، فصلها فى مقدمته لبعض هذه الأعمال التى أطلق عليها (العبقريات)؛ فصل هذا فى مقدمته لـ«عبقرية عمر».

وكان العقاد حريصا على تمييز كتبه التى صدرها بكلمة (عبقرية) عن غيرها من الكتب التى أفردها لشخصيات أخرى؛ لقد أراد لكتبه عن محمد (صلى الله عليه وسلم)، والمسيح (عليه السلام)، ولبعض صحابة النبى دون غيرهم مثل «أبو بكر»، و«عمر»، و«على»، و«خالد» أن تكون مسبوقة بلفظة «عبقرية»، ولم يشأ أن تكون كذلك فى ما يخص كتبه الأخرى عن بقية الصحابة؛ مثل: عثمان بن عفان، ومعاوية بن أبى سفيان، وعمرو بن العاص، وهذا يتصل بصلب نظريته عن تقديره لفكرة العبقرية الإنسانية وتمايزها؛ وكل هذا فى النهاية لا ينفصل عن رؤيته الإنسانية العامة ولا سياقه الثقافى والاجتماعى الخاص.

الحقيقة أننى مندهش من إقدام البعض؛ خاصة فى مجال النشر الثقافى، وبالأخص فى ما يتصل بتراث كتاب ومفكرين كبار، لهم أسماؤهم وقَدْرهم، دون أن يترووا قليلا وأن يبذلوا بعض الجهد فى إخراج هذه الطبعات بما يليق بقيمتها وبما يحترم أصحابها؛ فليست المسألة طَبْعا ونشرا وخلاص؛ لكن من المفترض أن من أخذ على نفسه أن يكون «ناشرا» أن يلزم نفسه قبل أن يلزمه غيره، بأصول هذه المهنة وأن يراعى مقتضياتها وأن يجتهد غاية الاجتهاد فى إصدار أعمال ونصوص توفر لها الحد الأدنى من الاهتمام والرعاية والتدقيق والتوثيق.

كان يمكن للسادة الأفاضل الذين قرروا إعادة طبع عبقريات العقاد، أن يطبعوها فى صورتها الأولى عن واحدة من طبعاتها المدققة المشهورة (من الطبعات القديمة أو الحديثة على السواء) أو إذا أرادوا أن يقدموا شيئا جديدا مصاحبا للنص الأصلى، فلهم أن يرجعوا إلى الكتب والدراسات التى كتبها ثقات عن هذا الموضوع أو ذلك المؤلف. لن يعدم هؤلاء كتابا أو مؤلفا عن العقاد يرجعون إليه ويدققون معلوماتهم عن كتبه وأن يتأكدوا من عناوينها وموضوعاتها وتصنيفها.

لهم أن يرجعوا إلى كتاب نعمات أحمد فؤاد القيم «فى أدب العقاد»، وهو كتاب صغير الحجم، عظيم الفائدة، صدر عن سلسلة (اقرأ) بدار المعارف، ولهم أيضا أن يعودوا إلى كتاب المرحوم شوقى ضيف «مع العقاد»، الصادر فى نفس السلسلة عن دار المعارف. وكلاهما يوفران معلومات بسيطة وأولية ومدققة عن الرجل وقائمة مؤلفاته وتواريخ صدورها، والرابط الموضوعى بينها.. إلخ.

مع كاتب غزير الإنتاج متعدد المواهب مثل «العقاد»، فأنت أمام مؤسسة راسخة قائمة على تصورات كبيرة وضخمة، كالبناء الهندسى، المرتب، المؤثث، فلم يكن مشروعه الثقافى والفكرى والأدبى، عشوائيا، أبدا، كان يكتب وهو يعلم جيدا ماذا يكتب وكيف وما موضعه من مجمل أعماله وأين.. أنت هنا تتحدث عن العقاد، واحد من العقول الفذة التى أنجبتها الثقافة العربية فى القرن العشرين بلا جدال، فإذا قررت أن تتصدى لمهمة طبع أعماله أو بعضها، فلا يغرنك سهولة نشرها وسابق تداولها، فقد تقوم بحذفٍ أو إضافةٍ بعلم أو بغير علم، بوعى أو بدون، فتقع فى المحظور وتضطرب الأمور وتخرج طبعات تثير من المشكلات أكثر مما ابتغيته أنت كناشر من الربح أو النفع والفائدة إذا أخذنا بحسن النية وظواهر الأعمال.

لك عزيزى الناشر أن تتفق أو تختلف مع نظرية العقاد فى تقدير العبقرية وفى الانحياز لها أو رفضها.. أنت حر.. لكن أن تعبث بتراثه، وتسحب وصفا لم يُضفه على شخصية من الشخصيات التى كتب عنها ووسمها بالعبقرية (وهو حر تماما فى هذا بالمناسبة) فهذا «عبث» و«افتئات» على حقٍ ليس من حقك، ولا من صلاحياتك كدار للنشر أن تتصرف هذا التصرف غير اللائق.. من الواضح أن سقوط حقوق الملكية الفكرية بعد 50 عاما من وفاة صاحبها تعنى عندنا امتهانه والعبث بتراثه، والتصرف فيه بغير علم ولا روية ولا تقدير لخطورة الفعل. هذه سابقة خطيرة وتفتح بابا غير محمود العواقب.. وأرجو أن يتحمل كل ناشر مسئوليته الأخلاقية والمهنية فى ما تصدى له من نشر هذه الأعمال.. أرجوكم تحملوا مسئوليتكم.