من التعليم إلى الصناعة: القطعة الناقصة في العملية التعليمية - محمد زهران - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 4:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من التعليم إلى الصناعة: القطعة الناقصة في العملية التعليمية

نشر فى : السبت 23 يناير 2021 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 23 يناير 2021 - 7:35 م

تخيل معي طالب جامعي في كلية الهندسة في تخصص الهندسة الكهربائية مثلاً. هذا الطالب مجتهد ويحصل على درجات عالية وتخرج بامتياز مع مرتبة الشرف، عند تخرجه بدأ العمل في شركة تكنولوجية كبيرة. المعرفة النظرية التي حصلها في الجامعة لن تكون مفيدة منذ اللحظة الأولى قبل أن يتم تطعيمها بالمعرفة العملية والتطبيقية والتدرب على التفاصيل الصغيرة للعمل فكمان يقول المثل الغربي "الشيطان في التفاصيل" أو "The devil in the details". إذا الشركة لن تستفيد من هذا الشخص حديث التخرج إلا بعد مرور مدة بل ستصرف وقتاً ومجهوداً ومالاً أثناء هذه المدة.

هناك كتاب نُشر سنة 2020 بعنوان "From Insight to Innovation" أو "من الرؤية حتى الابتكار" وعنوان فرعي "الأفكار الهندسية التي غيرت أمريكا في القرن العشرين" من تأليف (David P. Billington) وهو مؤرخ لتاريخ الهندسة والتكنولوجية. هذا الكتاب يشرح كيف تتحول الأفكار إلى منتج أو تكنولوجيا وأن المعرفة النظرية ينقصها الكثير قبل أن تصبح مفيدة.

هذا معناه أن هناك جزءاً مهماً ينقص العملية التعليمية عندنا ونركز هنا على الدراسات الجامعية. هذا الجزء هو التدريب العملي وتطبيق النظريات التي يتعلمها الطالب. قد يعترض البعض ويقول إن هذا الجزء موجود بالفعل في التدريب الصيفي في الشركات (وهو شرط للتخرج في بعض الكليات) ومشروع التخرج في الكليات العملية. هذا جميل لكنه لا يكفي. التدريب الصيفي في بعض الشركات يدرب الطلاب فقط على ما يفيد تلك الشركة أو المصنع ولا يتصل بكل ما يدرسه الطالب، وفي بعض الأحيان قد لا يكون له علاقة بما يدرسه الطالب. أما مشروع التخرج فهو مشروع واحد ومركز على نقطة أو مادة واحدة أو عدد قليل من المواد التي لها علاقة بفكرة المشروع. ما نريده هو ربط كل مادة يدرسها الطالب بالصناعة وكيف تؤثر فيها، وهذا يساعد الطالب على بناء التصور الكلي للتخصص وكيف تتكامل فيه المواد التي يدرسها ويساعد بعضها بعضاً.

كنت أتحدث مع صديق عزيز أستاذ جامعي ورئيس قسم في أحد أعرق الجامعات في مصر عن العملية التعليمية في الجامعة وما يحتاجه الطالب. محصلة هذا الحديث (والذي أثيرت فيه أفكار تحتاج عدة مقالات) أن كل مادة يدرسها الطالب يجب أن تحتوي على عدة أشياء: المادة العلمية نفسها وكيف تؤثر تلك المادة وتتأثر بالمواد الأخرى وكيف تُستخدم تلك المادة العلمية في الصناعة. تلك النقطة الأخيرة تحتاج مشروعات صغيرة أو حتى مشروع واحد ينفذه الطالب في تلك المادة وأيضاً محاضرة أو أكثر يلقيها زائر من الصناعة (مصنع أو شركة) يعطي الطالب لمحة عن استخدام تلك المادة العلمية وتطبيقها في الحياة العملية.

الاختلاف بين النظرية والتطبيق تنبع أساساً من حقيقة أن الحياة العملية أكثر تعقيداً بكثير من التبسيط الموجود في المادة النظرية. مثلاً في هندسة الحاسبات تشرح للطالب مكونات جهاز الكمبيوتر وكيف تتفاعل فيما بينها، لكن عندما تطلب من الطالب شراء مكونات جهاز كمبيوتر وتجميعها لبناء جهاز كامل فهو سيحتاج لمعرفة أشياء مثل أية قطع تناسب أية قطع وحجم الصندوق المعدني أو البلاستيكي الذي سيحتوي الجهاز ووسيلة التبريد إلخ. إذا القطعة الناقصة في العملية التعليمية هي إضافة بعض المعلومات عن التطبيق، ويجب على أستاذ المادة التأكد من وجود وقت في الفصل الدراسي لتدريس تلك القطعة الناقصة. إذا سمعت جملة من نوعية "نحن بالكاد نتمكن من الانتهاء من المادة العلمية" فاعلم أن هذه المادة لم يتم تصميمها بطريقة جيدة.


هنا نقطة صغيرة أحب أن أذكرها قبل أن ننهي هذا المقال. عندما تحدثنا عن كتاب "من الرؤية حتى الابتكار" ذكرنا أن مؤلفه مؤرخ متخصص في تاريخ الهندسة والتكنولوجيا، وهي مهنة أتمنى أن نراها عندنا. نريد أن نحكي للأجيال الجديدة عن كيف ظهرت ونُفذت أشياء مثل برج القاهرة أو السد العالي أو كوبري أكتوبر أو الارسال التليفزيوني إلخ وما هي المصاعب التي واجهت المهندسين وكيف تغلبوا عليها وقبل كل ذلك كيف ظهرت الفكرة وكيف تم التخطيط لها. نري بعض هذه المعلومات في برامج أو مقالات متناثرة ولكنها تكون وسط كم من التاريخ السياسي أو الشعبي واللقطة التكنولوجية تضيع وسط الموضوع الأساسي. نريد مؤرخين متخصصين يضعوا التكنولوجيا أمام المجهر لتعليم الجيل الجديد كيف تتحول الفكرة إلى منتج، سيعطي هذا دفعة علمية ونفسية كبيرة لهذه الأجيال الجديدة ... فهل نرى ذلك قريباً؟

محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات