الذين لا يقرأون التاريخ! - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الذين لا يقرأون التاريخ!

نشر فى : الأحد 23 أكتوبر 2022 - 9:50 م | آخر تحديث : الأحد 23 أكتوبر 2022 - 9:50 م
لكل عصر قضية كبرى، أو حدث جوهرى يبلور صورته فى التاريخ.
كانت حرب السويس (1956) وسط تحديات دولية وإقليمية لا مثيل لخطورتها مدخل «جمال عبدالناصر» للتاريخ.
بصورة أو أخرى فإنها كانت نقطة فاصلة فى تاريخ الإقليم والعالم، تغيرت معادلات قوة، سقطت امبراطوريات قديمة عن عروشها، وأخذت حركات التحرير فى العالم الثالث مداها بإلهام أن دولة من العالم الثالث استطاعت أن تكسب الرهان على استقلال قرارها الوطنى.
وكانت حرب أكتوبر (1973) مدخل «أنور السادات» للتاريخ بقدر استجابتها لطلب تحرير الأراضى المحتلة بقوة السلاح، بذلت تضحيات هائلة فى ميادين القتال، رغم خذلان السلاح بالسياسة فإنه يحسب له تحمل مسئولية قرار الحرب.
عند مطلع عام (2004) كان تقديرى أن هناك فرصة أمام «مبارك» لدخول التاريخ من باب التحول الديمقراطى.
فى ذلك الوقت أخذت شرعية حكمه تتآكل، وبدا النظام كله فى حالة ترنح إثر سقوطه مغشيا عليه أثناء خطاب له فى مجلس الشعب.
بقلق زائد طرح وقتها سؤال «مصر إلى أين؟» على المجال العام فى بلد لا تحكمه أية قواعد دستورية راسخة فى نقل السلطة.
كان ذلك وضعا خطرا على أمن البلد قبل أمن النظام وبابا مفتوحا على أوضاع انفجار لا سبيل إلى ردها.
بحسابات الأمن بدا الاستقرار هشًّا والتغيير إجباريا لتجنب عواقب انفلات واسع، أو فوضى دموية.
«هذا أوان التغيير الديمقراطى الواسع، وإلا فإن الكارثة واقعة لا محالة».
هكذا كتبت بالحرف يوم (25) يناير (2004) على صفحات جريدة «العربى».
كان ذلك نصا استبق بأيام قليلة ما جرى فى قصر الاتحادية يوم الثلاثاء (20) يناير من حوار مقتضب، لكنه كاشف، مع «مبارك» بعد أن غادر منصة اجتماع ضمه مع نحو (80) مثقفا بديلا عن حواره السنوى المعتاد فى معرض القاهرة الدولى للكتاب.
باقتراح من المفكر الراحل الدكتور «محمد السيد سعيد»، ذهبنا إليه فى طرف القاعة حيث كان يتجول فيها.
بشجاعة واستقامة عرض عليه، متحمسا ومقتنعا بما كنت قد كتبته، عن فرصته فى دخول التاريخ بالتحول إلى الديمقراطية.
أشاح «مبارك» بيده قائلا: «مش عاوز أدخل جغرافيا ولا تاريخ»!
فى ذلك اليوم جرت مفارقة تناقضت فيها التصرفات، بدا منفتحا على فكرة تمثيل معارضيه فى أول اجتماع يعقده مع المثقفين بعد تعافيه النسبى، حيث استبقه إلى دخول القاعة الدكتور «زكريا عزمى» رئيس ديوان رئيس الجمهورية، أخذ ينظر فى أرجائها متقدما نحوى قائلا: «الحمد لله، فالرئيس يريد أن يطمئن أنك موجود» غير أنه فى المضمون لم يكن مستعدا لأى حوار جاد يساعد البلد على تجنب المطبات المنتظرة، وقد دفع ثمنا باهظا فى عواصف يناير وخرج من التاريخ بأسوأ من أى توقع.
فى لقائه بالمثقفين بدت حالته الصحية أفضل مما كان متصورا، دخل قاعة الاجتماعات بالدور الثانى متماسكا.
تحدث مسهبا عن احتمالات تدخل قوى أجنبية بالتمويل إذا ما أجريت انتخابات رئاسية بين أكثر من مرشح، على ما كانت تطالب وقتها المعارضة المصرية مؤجلا بذريعة الأمن والاستقرار أى إصلاح سياسى ودستورى ضرورى.
كان مدركا مدى الأخطار المحدقة بالحدود وسيناريوهات تهميش الدور المصرى فى محيطه، لكن لم يكن لديه ــ بالمقابل ــ مشروع لدرء تلك المخاطر.
لم يدرك، وهو يتحدث عن معوقات التحول الديمقراطى باسم التدرج، أو معضلة الأمن، أن التسويف بذاته يغذى التدخلات الأجنبية ويفقد المجتمع السياسى أية مناعة مفترضة.
كانت الحقائق الرئيسية تدفع باضطراد لتأكل شرعية النظام واتساع الفجوة بين حكم عاجز وشعب محبط.
لم يكن نظام الحكم واثقا من نفسه ولا فى شعبه وأهدر فرصا واتته لدخول التاريخ بانفتاح ديمقراطى واسع ينسف قواعد اللعبة السياسية التى استنزفت زمنها وباتت عبئا على أمن البلد ومستقبله.
أفضى تعطل الإصلاح السياسى فى بنية نظام الحكم، الذى نالت الشروخ من شرعيته، كأنه بناية توشك على الانهيار، إلى ارتفاع منسوب تدخلات الإدارة الأمريكية فى أدق شؤونه.
ربما لم يفاجئ «مبارك» ــ أوائل شهر مارس (2005) ــ باتصال هاتفى مع «كونداليزا رايس» وزيرة الخارجية الأمريكية متصورا ــ لوهلة ــ أنها قد تشرح دواعيها وأسبابها لإلغاء مؤتمر كان مقررا ــ بعد أيام ــ فى شرم الشيخ يضم وزراء خارجية الدول الثمانية الكبرى ووزراء الخارجية العرب تحت اسم «منتدى الإصلاح والمجتمع المدنى»، أو قد تأسف ــ بلغة دبلوماسية معتادة فى مثل هذه الأحوال ــ عما يمكن أن تتصوره مصر إهانة لحقت بها بإلغاء المؤتمر من طرف واحد.
بصورة مفاجئة أبلغته «رايس»: «أن ما يجرى فى مصر من إصلاح سياسى بطىء بما لا يشجع الولايات المتحدة وحلفاءها الكبار على المشاركة فى مؤتمر من أهدافه الرئيسية دعم وتمويل عملية الإصلاح السياسى فى المنطقة العربية».
ثم مضت «بلغة غير مسبوقة فى التحدث مع رئيس أكبر دولة عربية: «أن الولايات المتحدة الأمريكية تتطلع لانتخابات رئاسية تنافسية حقيقية فى مصر بين مرشحين جديين».
بعد مكالمة «رايس» بأقل من أسبوعين مضت أطراف نافذة فى الاتحاد الأوروبى على الطريق الأمريكى الجديد، استخفافا بنظام الحكم أو القواعد الدبلوماسية المتعارف عليها، ففى تصريح ــ غير معلن ــ لنائب رئيس البرلمان الأوروبى، الذى كان يشارك فى المؤتمر البرلمانى اليورو ــ متوسطى منتصف مارس من ذلك العام، أكد أنه سوف يشارك بنفسه فى مراقبة الانتخابات الرئاسية المقبلة. فى جلسة خاصة جمعته مع بعض مراسلى وكالات أنباء أمريكية سئل: «هل طلبت ذلك الحكومة المصرية؟!».. كانت إجابته: «لا، قبلوا أو لم يقبلوا فسوف أراقب مع وفد أوروبى برلمانى نزاهة الانتخابات الرئاسية».
أخذت ضغوط الخارج تكبر ككرة ثلج تتدحرج، من قمم الجبال إلى سفوحها.
كان أسوأ ما جرى أن «مبارك» استجاب لضغوط الخارج دون أن يأبه لتطلعات الداخل، أجرى انتخابات رئاسية قيل بالادعاء إنها تعددية، فيما نتائجها مقررة سلفا.
كما يحدث ــ دائما ــ فى مراحل التحول من نظام إلى آخر تداخلت الصور واحتشدت مسارح السياسة بالفرص والمخاطر معا، غير أنه عزف عن أية قراءة للتاريخ، أكبر أستاذ للسياسة، كأن الحوادث المتدافعة لا تعنيه، رغم أنها محملة برسائل تنتظر استحقاقاتها فى المستقبل المنظور.