لا يمكن إدارة أزمة جزيرتى «تيران» و«صنافير» بإنكار طبيعتها الحساسة وتجاهل تداعياتها المحتملة.
ولا يمكن وقف السؤال العام عما جرى وحقيقته وترتيباته وتوقيته بالصراخ الإعلامى وحملات التشهير.
تحتاج مصر إلى إجلاء الحقيقة أمام رأيها العام بالحوار لا القمع، بالوثائق والخرائط والأدلة لا حملات المداهمات والاعتقالات العشوائية.
مثل هذه الأزمات يصعب التعويل على إغلاق ملفاتها بقبضة أمن أيا كانت شدتها.
شروخ الشرعية تطل على المشهد وللأمن طاقة لا يستطيع تجاوزها.
إدارة الأزمة بعضلات الدولة دون رشدها خطأ سياسى فادح يومئ إلى سيناريوهات جديدة قد تأخذ من الحاضر مستقبله.
عندما يغيب أى تقدير سياسى يقرأ الأزمة بين الناس العاديين ويدرك تداعياتها بأى مدى منظور فإن كل شىء محتمل.
القلق الأمنى الزائد تعبير عن أزمة متفاقمة والاعتقالات العشوائية إشارة تخبط لا قوة.
التخبط لا يوفر قاعدة ثقة فى إمكانية تجاوز الأزمة كما يستدعى إلى مسارحها الملتهبة كل المتناقضات السياسية، من يطلب الحق فى المعرفة، ومن يطلب صون الأمن القومى وحقوق السيادة، ومن يطلب تصفية الحسابات بروح الانتقام.
معضلة هذا البلد أنه يقف بين الأنقاض، لا أزاح ركام الماضى ولا أسس لمستقبل جديد، لا شرعيته الثورية بقيت ولا شرعيته الدستورية احترمت، لا الأوضاع الحالية مرشحة للاستمرار ولا هو يحتمل إخفاقا جديدا.
بين الأنقاض أخذت قواعد الشرعية تتآكل باضطراد ونسب الشعبية تتراجع بمعدلات لم تكن متوقعة.
بصورة أو أخرى استقطبت أزمة الجزيرتين مشاعر الإحباط العام من مجمل السياسات الحالية ونالت من صورة الحاضر بقسوة.
أسوأ استنتاج ممكن أنه يمكن تجاوز الأزمة الحساسة بإجراءات خشنة تسد أية قناة حوار وتمنع كل رأى مختلف.
كبت الأصوات من مقدمات تفاقم الأزمات.
هناك أشياء تكبر بمرور الوقت وتراكم الإحباط.
عندما لا تكون هناك قواعد تحترم فى مسائل الأمن القومى فإن الفوضى خيار مرجح.
أهم القواعد الشفافية والوضوح والقدرة على الإقناع.
الأزمة حساسة فى موضوعها، وهذه لا يمكن تجاوز اعتباراتها ومخاوفها ومخزون غضبها بلا أثمان باهظة.
والأزمة مرتبطة بسياقها، فسوء الأداء العام سمة رئيسية وارتفاع منسوب عدم الرضا لا يمكن إنكاره.
بصورة أو أخرى يدفع الحاضر فواتيره المؤجلة التى ترتبت على تآكل رهانات (٣٠) يونيو فى التحول إلى دولة حديثة مدنية وديمقراطية.
أزمته مع الأجيال الجديدة أخطر ثغراته المبكرة.
بتضييق المجال العام وتصفية الحساب مع ثورة «يناير» وأهدافها وتضحياتها والمحسوبين عليها بدأت أزمة الدولة مع شبابها.
كانت أسوأ قراءة لأزمة الأجيال الجديدة تلخيصها فى بعض الجماعات المسيسة دون إدراك أنها تشمل القطاع الأوسع والأكثر تأثيرا فى كل ما يتحرك إلى المستقبل.
القوة الضاربة فى الأجيال الجديدة تخاصم الحاضر وتنقم عليه.
هذه حقيقة لا سبيل لنفيها.
القضية ليست فى أحجام التظاهرات المحتملة بل فى مستويات الغضب ومعدلات الكراهية.
انسداد القنوات السياسية وغلبة لغة القمع والتهميش والإقصاء من المجال العام يفاقم الظاهرة.
قانون التظاهر أحد تجليات الكراهية المعلنة.
وفق الدستور الحالى التظاهر حق أساسى.
ووفق القانون السارى الحق مقيد إلى حد الإلغاء الفعلى.
عندما تغيب القواعد لا أحد يعرف أين يكون الانفجار ولا موعده ولا مداه ولا ما بعده.
لا أحد يحترم قانون التظاهر، لا الدولة ولا المتظاهرون.
فى حالات جرى غض الطرف عن بنوده وفى حالات أخرى جرى التوسع فى قيوده.
ما معنى الإفراج عن موقوفين والإفراج عن آخرين فى نفس الظروف والأحداث إلا أن يكون الأمر كله عشوائيا.
عشوائية الأداء العام تؤسس لانفجارات محتملة، إن لم تكن اليوم فغدا، وإذا لم تكن غدا فبعد غد.
لا أحد اطلع تقريبا على نص مشروع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية.
ولا أحد أطل على الحقائق الكاملة كما هى لا كما تقول الدعايات.
ولا جرى نقاش حول الجسر المقترح بين البلدين، أين فوائده بالضبط؟، وما موضع أخطاره؟، وما البدائل الممكنة لتجنب أية انهيارات فى صناعة السياحة بشرم الشيخ التى تعتمد أساسا على جمال شعبها المرجانية والغوص فى مياهها؟
بأرقام تقريبية يبلغ حجم الاستثمارات السياحية فى شرم الشيخ نحو (٤٠٠) مليار جنيه مصرى.
بغض النظر عن مشروع الاتفاقية المثير للجدل فإن مستقبل السياحة المصرية ليس من موضوعات التفاوض أو الأخذ والرد.
فى سوء إدارة ملف «تيران» و«صنافير» إغلاق كل منفذ وتعقيد كل حل.
أغلق منفذ «التحكيم الدولى» بالادعاء أنه ليس هناك تنازع بين الدولتين الشقيقتين على ملكية الجزيرتين يبرر اللجوء إلى تلك الخطوة.
بافتراض أن ملكيتهما سعودية، رغم شهادات وخرائط ووثائق تبرهن على مصريتهما، فإن خسارتهما أشرف وأكثر مقبولية بالتحكيم الدولى من الطريقة الغامضة التى جرت بها صياغة مشروع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية.
إذا لم تكن الملكية مؤكدة وتستحق فحصا تفصيليا ودقيقا فى الوثائق والمستندات فإن السيادة المصرية لا يمكن المنازعة فيها.
بكل حساب لا يمكن لأحد أن ينفى فواتير التضحية بالدم فوق الجزيرتين.
أى كلام ينفى السيادة المصرية عليهما منذ عام (١٩٥٠) تدليس ينال من صاحبه.
بنص الدستور لا يجوز التخلى عن حقوق السيادة إلا بعد استفتاء شعبى.
فى نفى السيادة تجنب للاستفتاء واختباره الصعب.
إذا كسبت «نعم» فإنها تستدعى اتهامات بتزوير الإرادة العامة.
وإذا كسبت «لا» فإنها هزيمة قاسية لنظام الحكم لا يحتملها تنزع عنه أية شرعية أو قدرة على البقاء.
فى الاحتمالين تصعب الموافقة على الاستفتاء الشعبى كمخرج من الأزمة.
باستبعاد منفذ «الاستفتاء» تتبدى أزمة دستورية تعمق شروخ الشرعية والثمن سوف يدفع باهظا من سمعة النظام.
بيقين فإن منسوب الاحباط العام أقل من كراهية جماعة الإخوان وخشية عودتهم إلى الحكم غير أن ذلك لا يمكن الرهان عليه طويلا.
بعض سياسات الحاضر تحرض على هدم المعبد فوق رأس من فيه.
كأننا أمام لعبة «دومينو» استغلقت أمام أحجارها أية قدرة على الحركة وباتت الخسارة شبه مؤكدة.
إذا ما أردنا مسارا آمنا يحفظ للمصريين حقهم فى معرفة الحقيقة ويمنع أية فتنة شعبية مع السعودية الشقيقة فلابد من الاحتكام إلى حوار وطنى مفتوح فى إطار لجنة مستقلة تضم أساتذة تاريخ وجغرافيا سياسية وأمن قومى وقانون دولى وسياسيين ومثقفين تبحث فى كل الوثائق والخرائط وتدقق فى التفاصيل وتجيب عن الأسئلة المعلقة.
أى عناد مع الحقائق نتائجه معروفة سلفا.