(1)
- «إن بلادنا لا بد أن تتغيرَ أحوالها، ويتجدد بها من المعارف والعلوم ما ليس فيها»
(الشيخ حسن العطار؛ شيخ الجامع الأزهر، توفى 1835)
- «إن خلاص مصر، ورقى مصر، ومستقبل مصر، رهن التمكن من مقومات الحضارة الحديثة...»
(الدكتور حسين فوزى فى كتابه «سندباد مصرى ــ جولات فى رحاب التاريخ)
(2)
هالنى، كما هال أغلب من شاهدوا بعض التصريحات الإعلامية التي تنتقد تدريس الإنسانيات (العلوم الإنسانية)، وتشمل الفلسفة والتاريخ والجغرافيا واللغات!
هذه التصريحات تربط باستهانة مذهلة بين سوق العمل وبين هذه العلوم والتخصصات وتسخر وتتهكم من الذين يدرسون الفلسفة «.
احد الذين هاجموا تدريس العلوم الإنسانية هوابن رجلٍ ظلَّ ما يقرب من نصف القرن يقدِّم بصوته النافذ الرخيم (يعنى المطرب المستحسن) برنامجًا شهيرًا على أثير الإذاعة المصرية بعنوان «كتاب عربى علم العالم»!
برنامج قوامه كله تمجيد قيمة هذه العلوم من التاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، والآداب، والإنسانيات عمومًا فى «التراث العربى» ومادته كلها والغاية منه وتأثيره الواسع فى تدعيم الوعى بالإنسان والإنسانيات والعلوم الإنسانية والتطبيقية على السواء!
برنامج جاء فى ديباجة تعريفه بصوتِ والد هذا الإعلامى «رحلة مع مشاعل الحضارة العربية التى أضاءت جنبات العالم» (وكانت تلك العبارة الاستهلالية لكل حلقة من حلقات البرنامج الذى ما زال يذاع حتى وقتنا هذا على إذاعة البرنامج العام).
(3)
لا أصدق أننا الآن وهنا ونحن فى 2024 ما زلنا ندافع عن العلوم الإنسانية، وجدوى الإنسانيات!
والله إنها لمحنة حقيقية وردّة حضارية وثقافية وإنسانية لم نشهدها فى تاريخنا الحديث والمعاصر فى القرنين الأخيرين!
دقيقتان أو ثلاث دقائق على الشاشة أتَت على كل ما كافح من أجله وناضل فى سبيل توطينه أجدادنا منذ شيخنا الجليل حسن العطار، وتلميذه النابه الشيخ رفاعة الطهطاوى، وحتى طه حسين، وتلاميذه وتلاميذ تلاميذه.
انتصرت هذه الثوانى المذاعة على الشاشة لافكار غريبة على حساب القيمة وبعد النظر واحترام الفكر والثقافة والوعى وعمليات الإدراك الإنسانى ككل! وأعلنت بدون أى اكتراث للقيمة أو العلم أن تعلُّم لغة من اللغات لن يستغرق سوى شهرين أو ثلاثة أشهر على الإنترنت، وكأن «اللغة» هذه بضع كلمات وقواعد وتعبيرات وانتهى الأمر! وبالتالى فلا معنى ولا ضرورة لبذل سنوات وإنفاق المجهود فى تدريس هذه اللغات بكليات الألسن والآداب! هكذا ببساطة وليذهب رفاعة الطهطاوى إلى الجحيم وتصب اللعنات على ذلك الذى فقد بصره فعوضه الله ببصيرة نافذة وأسس لنهضة كبرى قوامها الجمع بين تعلم اللغة الأم واللغات الأجنبية بل واللغات القديمة أيضا.
وكأن اللغة أى لغة ليست هى الوجود ذاته، وليست هى تجلى المعرفة الأكبر فى خبرة البشر، وكأن اللغة ــ أى لغة ــ ليست هى الثقافة والعادات والممارسات الحياتية والمعيشية، وهى التراث والتاريخ والحضارة والهوية وهى الوجود ذاته! وكأن اللغة ليست هى النفس الذى يتنفسه الإنسان سواء وعى بذلك أم لم يعِ!
(4)
إن هذا بالضبط ما حذَّر منه المفكر والناقد الراحل الدكتور لويس عوض قبل أربعين سنة أو يزيد.. ولم يهتم أحد بما قال، ولم يكترث أحد لتحذيره، فكانت النتيجة ما وصلنا إليه الآن! وكأن لويس عوض يسمع ويرى ويحلل مصيبتنا منذ نصف القرن أو يزيد.. هى هى! وكأنه كان مكشوفًا عنه الحجاب حينما لخص المأساة كلها فى هذه العبارة: الأمية الثقافية ستكون هى أم البلاء!
فى مقاله المنشور بالأهرام الأسبوع الماضى، يستشهد الدكتور أنور مغيث أستاذ الفلسفة القدير بجامعة حلوان
بقول فيلسوف التربية أوليفييه ريبول فى تحديد غايتنا من التعليم المدرسى، وهى أن «يوحد ويحرر»، يوحد بين الطلاب ويؤهلهم للاندماج فى مجتمعهم، ومن هنا أهمية دراسة جغرافيته وتاريخه، ويحرِّر الفرد بتكوين شخصيته المستقلة، وتزويده بمعايير للحكم العقلانى على الأحداث.
(5)
رباه..
ما سر هذه التعاسة العظيمة؟!
ما سر هذا الفزع العظيم؟!
(شعر صلاح عبد الصبور)