فى نقد النقد - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 2:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى نقد النقد

نشر فى : الأحد 25 أبريل 2010 - 9:52 ص | آخر تحديث : الأحد 25 أبريل 2010 - 9:52 ص

 أنتم يا ملح الأرض يا من تمتلكون شعاعا من ضوء تلقون به أينما تشاءون فتنيرون معالم معتمة داخل أدمغة البشر. أنتم يا من تقبضون فى أيديكم على مفاتيح التقدم، هل تدركون أهمية أن تروا أشياء لا يراها غيركم؟ ثم تقررون أن تشيروا بأيديكم إلى ما لا يراه غيركم فتتضح لأول مرة أمامهم التفاصيل حتى تكتمل رؤاهم.

لماذا لا تحققوا بهذه المنحة من الله عز وجل التى منحكم إياها ما يطمح إليه الوطن؟ أين ذهب النقاد وأين ذهب النقد؟ أعلم أن كثيرا ما يشعر الإنسان أن نتائج فعله محدودة أو منعدمة ولكن الحقيقة أن هذا ليس سببا كافيا ألا تفعلوا شيئا.

لأن كل جهد وفعل مصحوب بشعلة الإيمان يمكنه أن ينير طريقا ويحدث الفرق الذى نحتاج إليه اليوم أكثر من أى وقت مضى. الغد لن يكتب بصورة صحيحة بدونكم. فالنقد لمن لا يعلمون هو أحد أهم عوامل التنمية والتقدم. غياب النقد الحقيقى لأسباب لا مجال هنا لتفصيلها أدى إلى ما نعيشه اليوم من كرنفال للفقر الثقافى داخل معارض وبازارات الشك فى كل شىء.

لست أتكلم هنا عن النقد الأدبى أو الفنى فقط ولكن النقد فى معناه المطلق. كيف يمكننا أن نفهم مسارا سياسيا أو فكريا أو فلسفيا دون أن نقرأ الكتابات النقدية عن مسارات سياسية أو فكرية أو فلسفية مشابهة فى مناطق أخرى فى العالم، وكذلك دون أن نقرأ الأصول التى شكلت الأساس والجوهر لهذا المسار؟

كيف يمكننا تقييم ما يطرحه رجل كالبرادعى اليوم بجدية دون دراسة نقدية عميقة للحركات السياسية المصرية خلال العقدين الماضيين؟ كيف يمكننا فهم ما يحدث دون دراسة نقدية للمنهجية التى تعاملت بها أجهزة الدولة من الناحيتين السياسية والفكرية مع حركة «كفاية» على سبيل المثال والتى تحولت من حركة ملء الأسماع إلى حركة شبح.

كيف نتفاعل مع مجموعة الأفكار التى طرحها البرادعى على الساحة السياسية دون قراءة نقدية عميقة للأفكار السياسية وصراعاتها خلال المائة عام الماضية. قرأت الكثير من المقالات عن الرجل وما يقوله. ولكننى لم أقرأ دراسة نقدية واحدة عما يطرحه من رؤى سياسية ومدى اتساق أفكاره من ناحية، وعلاقتها مع المدارس الفكرية السياسية المصرية المختلفة من ناحية أخرى.

وأصبح السؤال فى هذا الموضوع: «أنت مع البرادعى ولا ضده؟»، كمن يسأل: «أهلاوى ولا زملكاوى؟». يكتب بعض المستشرقين عن العالم العربى أنه وطن بلا ذاكرة تحليلية فنحن نسير وفقا لهذا التحليل فى شكل دائرى. نبدأ دائما من جديد ــ كالثيران العمياء حول ساقية ــ من أول طريق كنا قد سلكناه وتعثرنا فى خطاه.

يتم للأسف كثيرا طرح أسئلة تم طرحها خلال القرن العشرين عشرات المرات، وكتب العديد من المفكرين المصريين أعمالا فى محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة. وأفهم أن من يطرحها يتصور أنها أسئلة طازجة كالسمك داخل الماء. هل ندور حقا فى حلقة مفرغة؟ درست فى المدرسة فيما درست تاريخ الأدب الفرنسى.

وكانت الكتب المقررة تشرح ببساطة تاريخ الأفكار فى فرنسا خلال القرون من السابع عشر إلى العشرين، بعرض لأهم المفكرين والروائيين والشعراء وأهم ما تم طرحه من أفكار خلال كل قرن. ومن هنا نستطيع فهم ما قدمه جول فرن على سبيل المثال من أعمال فى إطار المرحلة التاريخية التى عاشها ومن خلال مجمل الأفكار التى كانت سائدة فى عصره.

هذا بالإضافة إلى شرح للعلاقات بين ما قدمه جول فرن والمنجز العلمى أو الفلسفى فى العالم فى تلك الفترة. هذا المنجز النقدى الفرنسى موجود أيضا فى جميع الدول الأوربية. فيمكننا قراءة كتاب بسيط عن تاريخ الأفكار فى القرن السابع عشر فى إنجلترا على سبيل المثال. ولكن لا يمكننا فعل نفس الشىء عن مصر. فلا يوجد فى مقرراتنا المدرسية كتاب نقدى يقدم صورة للواقع الفكرى فى مصر خلال القرون الأربعة الأخيرة مع عرض لأهم الكتاب والمدارس الفكرية فى كل قرن.

بزغت ونمت الحضارة العربية الإسلامية بجهود نقدية جبارة لأعمال الحضارات الهلينية والرومانية والفارسية وغيرها، ولولا هذه الجهود لما أصبحت حضارتنا الإسلامية منارة العالم خلال عدة قرون. تنامى الحركة النقدية فى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت القاعدة التى انطلقت منها حركة فكرية بازغة أسست للفكر المصرى الحديث. هذا الغياب الكامل لكتب النقد خلال العقود القليلة الماضية جعل من الصراخ بطلا وأدى إلى تغييب كامل للتحليل العميق.

حالة الصراخ المجنون هذه جعلت الآذان المصرية غير قادرة على التقاط كل الأصوات الأدنى من درجة العويل. وجعلت التحليل العميق مساويا فى قدره للردح فكلا الصوتين أصبح غير مسموع. حالة الصراخ جعلت أيضا كل الأفكار سواء، فالأذن عند درجة مجنونة من ارتفاع الصوت تستوى عندها دلالات كل الأحرف. لا معنى لشىء يقال ولكن الفرق الوحيد هو فى لون الصراخ، وباتت الانتماءات صارخة هى الأخرى كل مع لونه المفضل. قمصان سوداء أو حمراء أو خضراء.

الإعلاء من قيمتكم أيها النقاد الأجلاء هو دورنا الذى يجب أن نعمل جميعنا على تحقيقه. فلا معنى للحراك دون أن يستند على أرضية صلبة من الفهم والتحليل العميق للمواقف الفكرية التى لا يمكن أن تضاء جنباتها إلا بسنا أعمالكم.

خالد الخميسي  كاتب مصري