لا يبتعد جو بايدن وكبار أعضاء فريقه للسياسة الخارجية عن الخط التقليدى الليبرالى الأمريكى، والذى يؤمن إيمانا عميقا بفكرة وحتمية العمل مع الشركاء حول العالم، من أجل عالم أفضل تقوده واشنطن، ويصطدم ذلك بصورة كبيرة مع ما أتبعه الرئيس المغادر دونالد ترامب.
ولم يؤمن ترامب بتعقيدات قضايا السياسة الخارجية، ولا بارتباطها وتفرعاتها للقضايا الداخلية والإقليمية والتاريخية، واعتبر أن هذه حجج للتشويش على الأمريكيين البسطاء الذين يتساءلون لماذا تبدو بلادهم أقل خوفا من الأعداء وأقل احتراما من قبل الحلفاء.
ومنذ اليوم الأول فى البيت الأبيض، عكس ترامب رؤية شعبوية أمريكية تلائم القرن الواحد والعشرين. وتركز رؤية ترامب على قصور وسلبيات ونتائج ظاهرة العولمة التى وجهتها وقادتها بالأساس الولايات المتحدة، سواء تحت حكم الجمهوريين أو الديمقراطيين خلال العقود الأخيرة، لكنها لا ترد على سبب اتخاذ بعض السياسات التى لا يجمع بينها أى نسق أو إطار واحد. وترجم بعض علماء السياسة مواقف ترامب كانعكاس لتبنيه مبدأ «أمريكا أولا»، من خلال رؤية تخدم مصالح بلاده بطريقة مختلفة وغير تقليدية. وأظهرت السياسات الخارجية التى اتبعها ترامب التزاما جادا بشعبوية أمريكية للسياسة الخارجية لم تكترث بالتنظيم الدولى، ولا بالعمل الجماعى لمواجهة التحديات المشتركة سواء ما تعلق بالتغير المناخى أو مواجهة الأوبئة والفيروسات.
***
من هنا ينبغى على بايدن الاستعداد لعالم مختلف عن العالم الذى تركه عندما خرج من البيت الأبيض كنائب للرئيس السابق باراك أوباما عام 2016، إذ تلاحق الصين أمريكا وتنافسها فى الكثير من المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، ودفعت تداعيات فيروس كورونا إلى توترات غير مسبوقة بين الدولتين لن ينهيها وصول بايدن للبيت الأبيض.
من ناحية أخرى، نجح ترامب فى تشويه علاقات بلاده بالعديد من الدول الحلفاء والأعداء فى الوقت ذاته، وهو ما يمثل عقبات أخرى أمام رغبة بايدن لترميم علاقة بلاده بالعالم.
وقد يعيق ارتفاع عمر جو بايدن، إذ بلغ 78 قبل أيام، إضافة لعمق خبرته المرتبطة بقيادة أمريكية قديمة منفردة للعالم، وتقليدية فكر مساعديه، من الوصول لحلول مبتكرة للتعامل مع الزخم الصينى والتعقيدات المستمرة التى يدفع بها فيروس كورونا على الساحة الدولية.
فى الوقت ذاته، لا نعرف بعد إذا كان بايدن جدد إدراكه لحدود القوة الأمريكية فى عالم اليوم. قبل سنوات لم يمانع بايدن من القيام بتدخلات عسكرية، وتتحدث مذكراته عن فخر بدفع الرئيس السابق بيل كلينتون نحو التدخل العسكرى لوقف الحرب فى البوسنة. ويمتلك بايدن إرثا ثقيلا تجاه الشأن العراقى، فقد انتهى به الأمر إلى التصويت لصالح قرار الغزو، ثم طرح، أثناء رئاسته للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، فكرة تقسيم العراق إلى ثلاث دول، سنية فى الوسط، وشيعية فى الجنوب وكردية فى الشمال.
***
كتب بايدن مقالا لدورية فورين أفيرز فى مارس الماضى يقول فيه «تضاءلت مصداقية ونفوذ الولايات المتحدة فى العالم منذ أن تركت أنا والرئيس باراك أوباما منصبنا فى 20 يناير 2017. لقد قلل الرئيس دونالد ترامب من شأن حلفاء الولايات المتحدة وشركائها وتخلى عنهم فى بعض الحالات. لقد انقلب على رجال استخباراتنا ودبلوماسيين وقواتنا المسلحة. لقد شجع خصومنا وبدد نفوذنا للتعامل مع تحديات الأمن القومى من كوريا الشمالية إلى إيران، ومن سوريا إلى أفغانستان إلى فنزويلا. لقد شن حروبا تجارية غير حكيمة، ضد أصدقائنا وخصومنا على حد سواء، وهو من أضر بالطبقة الوسطى الأمريكية. تنازل ترامب عن القيادة الأمريكية فى حشد العمل الجماعى لمواجهة التهديدات الجديدة، وأخطر ما فى الأمر، أنه ابتعد عن القيم الديمقراطية التى تعطى قوة لأمتنا وتوحد شعبنا».
كما أصبحت قضية تغير المناخ أكثر سوءا خاصة مع انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس فى بداية عام 2017، وكانت واشنطن هى القوة الدافعة الرئيسية للتوصل لهذه الاتفاقية فى عهد باراك أوباما. وانسحبت واشنطن من عدة منظمات دولية مهمة مثل منظمة الصحة العالمية، وبعض منظمات الأمم المتحدة المتخصصة.
وسيكون على بايدن التعامل مع تبعات انسحاب ترامب من الاتفاق النووى مع إيران، والذى توصلت إليه إدارة أوباما، وقضى برفع أغلب العقوبات الدولية مقابل التزام طهران بعد الحصول على أسلحة نووية. ولم يترك ترامب المهمة سهلة التنفيذ أمام بايدن مع تعقد وعمق العقوبات التى فرضتها إدارته خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة.
كما أن أمام بايدن ظاهرة جديدة نمت وانتشرت أثناء سنوات حكم ترامب، ألا وهى انتشار نظم الحكم الشعبوية فى العديد من دول أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية، وهو ما يزيد من توتر النظام الدولى.
وكرئيس، تعهد بايدن باتخاذ «خطوات فورية لتجديد الديمقراطية والتحالفات الأمريكية»، ومن أهم ما ينوى بايدن القيام به هو تنظيم مؤتمر قمة عالمى من أجل الديمقراطية لتجديد روح العالم الحر ودعم مصالحهم المشتركة.
ويهدف المؤتمر إلى «تعزيز المؤسسات الديمقراطية، ومواجهة الدول التى تتراجع فيها الديمقراطية، وصياغة جدول أعمال مشترك».
وستضم القمة من أجل الديمقراطية منظمات المجتمع المدنى وكبريات شركات التكنولوجيا من جميع أنحاء العالم التى تقف على الخطوط الأمامية للدفاع عن الديمقراطية.
ومهد بايدن لهذه الخطوة بشن هجوم على انتهاكات حقوق الإنسان فى عدة دول منها الصين وروسيا وتركيا وإيران وبعض الدول العربية.
***
فى النهاية سيتعين على جو بايدن، أن يخاطب العالم كما أصبح، وليس كما عرفه خلال عقود عمله الطويلة كسياسى وسيناتور ورئيس للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، وأتصور أن يمثل ذلك تحديا كبيرا للرئيس الجديد وفريقه من ليبرالى السياسة الخارجية.
كاتب صحفى متخصص فى الشئون الأمريكية ــ يكتب من واشنطن.