الأعراض التونسية.. الدوى والمناعة - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 11:57 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأعراض التونسية.. الدوى والمناعة

نشر فى : الخميس 27 يناير 2011 - 10:10 ص | آخر تحديث : الخميس 27 يناير 2011 - 10:10 ص

 منذ وقعت انتفاضة الشعب التونسى التى أطاحت بزين العابدين بن على شُغل كثير من السياسيين والمحللين فى البلدان العربية بإمكانية انتشار «الأعراض التونسية» عربيا، ولوحظ أن «السياسيين» اتفقوا على نحو شبه مطلق على أن الأحداث لا يمكن أن تنتقل إلى بلدانهم لأن المسئولين فيها «ساهرون» على خدمة شعوبهم، ولأن الظروف التى كانت سائدة إبان حكم بن على لا صلة لها من قريب أو بعيد بظروف بلدانهم.

هكذا خلصوا إلى استحالة الإصابة «بالعدوى» التونسية، ولا بأس من قدر يعتد به من السخرية من مخالفيهم فى الرأى. أما المحللون غير المرتبطين على نحو مباشر أو غير مباشر بدوائر رسمية فقد اعتبروا أن انتقال الأعراض التونسية إلى البلدان العربية التى تعانى من قهر نظمها الحاكمة هو من قبيل البديهيات. غير أن المسألة تحتاج إلى معالجة علمية مسئولة قد تصطدم نتائجها بتمنيات الحالمين بتغيير مشروع، غير أنه يبقى لها فضل محاولة التوجيه إلى الطريق السليم لهذا التغيير.

تستند فكرة تعاقب الأحداث بالنمط نفسه من حالة إلى حالات أخرى على ما يعرف بنظرية «الدومينو» الشهيرة، فانهيار سهم فى البورصة قد يفضى فى تعاقب سريع إلى انخفاض مماثل فى قيم أسهم أخرى حتى تغلق البورصة أبوابها، وإفلاس مصرف قد تنتقل عدواه إلى مصرف ثانٍ فثالث، وهكذا حتى نصبح إزاء أزمة مالية حقيقية. وتستند هذه النظرية إلى فكرة «التواقف» أو «الاعتماد المتبادل»، فأن تكون وحدة ما جزءا من نظام للتفاعلات يجعلها تتأثر بالضرورة بما يجرى فى أى وحدة أخرى من وحدات النظام، خاصة إذا كان ما يجرى هذا بحجم ما حدث أخيراً فى تونس، غير أنه من الأهمية بمكان أن نعى حقيقة أن طبيعة هذا التأثر ودرجته وحدوده تحتاج درسا وتحليلا حقيقيين.

وقد يكون أقرب الأمثلة تاريخيا فى هذا الصدد هو ما يتعلق بنبوءة كارل ماركس فى القرن التاسع عشر بشأن انهيار النظم الرأسمالية «دفعة واحدة» بدءا بأكثرها تقدما، كون التناقضات قد بلغت فيه ذروة نضجها، لكن ما حدث أن الانهيار بدأ بروسيا القيصرية ــ أقل هذه النظم تقدما ــ ولم ينتشر خارجها، وهنا قدم لينين قائد الثورة الروسية تفسيره من خلال فكرة «التفاوت فى مراحل النمو»، بما يعنى أن ظروف الثورة قد تنضج فى بلد دون غيره من بلدان النظام الرأسمالى، كما أن ثمة احتمالا فى أن يكون نجاح الثورة الاشتراكية فى روسيا القيصرية قد حول نبوءة ماركس ــ التى ربما كانت صحيحة فى الأصل ــ إلى نبوءة «هادمة لذاتها» self-defeating ، ويشير هذا إلى سعى القوة الفاعلة فى سياق معين لضبط مسار التطور لصالحها.

ولنفترض مثلا أن حكام الدول الرأسمالية آنذاك كانوا يستخفون بنبوءة ماركس، ثم إذا بهم يجدونها تتجسد بالفعل فى دولة بثقل روسيا القيصرية. من الطبيعى أن يصيبهم القلق والخوف من جراء ذلك، ويعملون على تفادى المصير نفسه بتحسين أجور العمال وظروف معيشتهم على النحو الذى يخفف من حدة التناقضات التى اعتبرها ماركس فتيل انفجار الثورة، وهو ما يُرجَح أنه قد حدث بالفعل، بدليل أن نظاما رأسماليا واحدا فى أوروبا لم يلق مصير النظام الرأسمالى فى روسيا القيصرية، وحتى النظم التى تبنت الاشتراكية فى شرق أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية نعلم أن ذلك قد تم فى ظل وجود القوات السوفييتية على أراضيها، ولذلك ما إن تخلخلت القبضة السوفييتية فى ثمانينيات القرن الماضى حتى انهارت تلك النظم فى تعاقب سريع يشبه ما تنبأ به ماركس وإن على نحو «مقلوب»، إذ كان يتحدث عن تعاقب الانتقال إلى الاشتراكية وليس الخلاص منها.

ليس ما يحدث فى عديد من البلدان العربية الآن ببعيد عن التحليل السابق، فقد انخرطت نظم هذه البلدان فى سباق محموم من أجل إثبات اهتمامها برفع معيشة المواطنين، وتخفيف المعاناة عنهم، ووقف أى إجراءات تتعارض مع ما سبق كانت بسبيلها إلى أن توضع موضع التنفيذ، وزيادة رواتبهم...إلخ، وقد يثمر هذا كله أو لا يثمر وفقا لعوامل نعود إليها لاحقا.

ولننتقل الآن إلى واقعنا العربى كى نواصل مناقشة الأفكار السابقة فى سياق أكثر ملاءمة، وهنا نشير إلى ثورة يوليو 1952 التى قادت مشروعا حقيقيا للتغيير فى الوطن العربى لقى تجاوبا هائلا من الجماهير والنخب العربية، ولا ننسى أن ذلك المشروع ارتبط بوزن مصر القيادى شبه الاحتكارى فى الوطن العربى فى ذلك الوقت، فماذا كانت النتيجة العملية؟ لا شك أولا فى القيمة التاريخية الهائلة للانتصار فى معارك التحرر الوطنى فى الجزائر واليمن وغيرهما، ولنلاحظ أن التحرر من الاستعمار قضية إجماع وطنى سهل حشد الشعوب حولها.

كذلك لا ريب ثانيا فى أن نقلة نوعية قد حدثت فى النظام العربى ككل على صعد مختلفة، غير أننا إذا حاولنا قياس أثر ثورة يوليو على الأنظمة العربية المحافظة تحديدا سوف نجد أنه يكاد ينحصر فى العراق عقب ثورة1958، وفى اليمن من خلال ثورة 1962 التى دعمتها القيادة المصرية بتدخل عسكرى كثيف، وحتى العراق نعلم أن نظامه الثورى الجديد سرعان ما دخل فى خلافات طاحنة مع قيادة ثورة يوليو. وتفككت الوحدة التى أقيمت مع سوريا فى 1958 بعد نحو ثلاث سنوات ونصف السنة، ولا يعنى هذا كله إلا أحد أمرين أو كلاهما: الأمر الأول أن العوامل الداخلية تبقى هى الفيصل فى حدوث التغيير مهما كانت ضراوة موجته، والثانى أن ثمة احتمالا أن تكون النظم المحافظة التى صمدت أمام إعصار التغيير اتخذت بعض الخطوات فى الداخل من شأنها أن تحول دون وقوع انفجار شعبى يودى بها من جراء ذلك الإعصار.

يعنى ما سبق أن الثورة التونسية سوف تكون لها دون شك تأثيراتها العديدة عربيا، ولعل أهم هذه التأثيرات بداية أنها أكدت عروبة النظام بعد أن كان البعض يروج بإصرار لوفاة العروبة، وأن المتأمل لردود أفعال الجماهير العربية والبهجة التى أصابتها بسبب عظمة ما وقع فى تونس، والأمل فى التغيير نحو الأفضل أسوة بالتجربة التونسية لا يمكن إلا أن يدرك المعنى الحقيقى لعروبة الجماهير، ومن ثم عروبة النظام.

غير أنه بعيدا عن هذا يجب أن يكون واضحا أن الأمور لا تحدث ولن تحدث بطريقة آلية، فليس معنى أن شابا تونسيا أحرق نفسه فى لحظة غضب لكرامته ودفاعا عن قوت يومه فكان وقودا لثورة شعبية نادرة الحدوث أن الثورات المنتظرة لا تحتاج سوى إلى شخص يحرق نفسه، وإلا أصبحت الشعوب المقهورة أشبه بمجموعة من الببغاوات أو القردة تصدر أصواتا لا تفهمها أو تأتى بحركات لا تدرى كنهها، لكن التغيير يأتى عندما تنضج ظروفه الداخلية بما فى ذلك ضرورة وجود قوة منظمة تقود إليه أو شعب موحد الإرادة يقف خلفه كما فى الحالة التونسية.

فعلى الذين انتعشت آمالهم بغد أفضل بعد أحداث تونس أن ينظروا إذن فى أنفسهم ليروا إلى أى حد تتوافر لديهم موضوعيا مقومات هذه الأحداث، والسبيل إلى استكمال النقص فى هذه المقومات، ولنضع نصب أعيننا دائما ذلك القانون القرآنى الذى لا يأتيه الباطل: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية