منذ أكثر من خمسة عشر عاما، وقعت عقدا لكتاب عن القاهرة. كتاب شخصى، منحاز، يصطحب القارئ ــ قارئ الإنجليزية ــ فى جولات فى الأحياء والمناطق التى أحببتها، التى نشأت فيها، التى شكلت مسرحا لأحداث حياتى.
لم أكتب الكتاب. مرت السنوات ولم أكتبه. كنت كلما حاولت وجدتنى أكتب بصيغة الماضى، وكأننى أبكى على أطلال؛ وكان من المستحيل أن أكتب مرثية للقاهرة.
وفى فبراير ٢٠١١، كنت فى التحرير، أشارك فى الثورة وأكتب عنها، فجاءتنى مكالمة من دار النشر التى تعاقدت معها؛ حدثتنى ألكسندرا برنجل، قالت: «لعل هذه هى اللحظة المناسبة لكتابك عن القاهرة». وحين ترددت أضافت «انتظرنا هذا الكتاب طويلا».
كنت أريد أن أعيش الثورة لا أن أكتب عنها. وكنت أهاب مسئولية الكتابة عنها. جان جينية، فى «سجين مُحِبّ»، كتابه الذى أعجب به كثيرا، عن الثورة الفلسطينية، يقول: «أنا لست مؤرخا.. هذه ثورتى الفلسطينية أحكيها كما أرى». لا أستطيع أن أردد قوله؛ أحكى بالترتيب الذى أراه، نعم، لكن الثورة المصرية ثورتنا كلنا.
لم يكن من الممكن أن أجلس إلى المكتب وأكتب عن الثورة. الأحداث كانت بحاجة ــ مازالت بحاجة ــ إلى كل واحد منا، إلى وقته، طاقته، وجوده ذاته، ليقوم بما يتطلبه المجهود الثورى من مسيرات، من حشد، من وقوف، أو حديث، أو تدخل أو كتابة أو مواساة أو شهادة أو بلورة أو استماع.. حاولت أن أكون ثائرة وكاتبة فى نفس الوقت، وسريعا ما أدركت أن هذا الكتاب، إن كان سيقدر له أن يكون، كما أردت، عاملا فاعلا فى الحدث وليس فقط تسجيلا أو توثيقا له، فعليه أن ينغمس فى اللحظة الحاضرة ويتعامل معها، واللحظة الحاضرة، بطبيعة الحال، فى تَحَوُّل مستمر.
الثورة ليست واقعة أو حدثا هى عملية ومسيرة. ثورتنا تسير وتجاهد فى طريق صعب، فالمصالح التى نحاول أن نتحرر منها منتشرة متفشية متسلطة متشبثة. لكننا امتلكنا ١٨ يوما، أُعطينا ١٨ يوما، توحدنا فيها فتخلصنا من رأس النظام الذى كان يدمرنا ويدمر بلادنا ويدمر كل غالى عندنا. ثمانية عشر يوما أظهرت الأجمل فينا، وجعلتنا نرى، ليس فقط قدرتنا على أن نحقق ما نريد، بل قدرتنا على أن نكون كما نريد.
١٨ يوما
الجمعة ٢٨ يناير، الخامسة مساء
النيل رصاصى ساكن. تتناثر فى مياهه حرائق صغيرة. ابتعدنا عن الشاطئ الملاصق لفندق الهيلتون رمسيس ونتجه نحو عرض النهر. سالمة ومريم، بنات أخى، تجلسان إلى جانبى فى المركب الصغير. نبتعد عن الشاطئ فتخف حدة السعال؛ نستطيع التنفس، وإن كان النفس يؤلم، ونستطيع أن نفتح عيوننا –
لنرى غسقا معتما، يثقله الغاز. أمامنا، نرى كوبرى قصر النيل كتلة من البشر، الكل يتحرك والكل فى مكانه. ننظر إلى حيث كنا من دقائق، على كوبرى ٦ أكتوبر، ونرى عربة أمن مركزى مشتعلة، تحاول التراجع، يطاردها أربعة من الشباب يهاجمونها ويضربون زجاجها. العربة تتراجع فى ذعر، تتراجع شرقا، نحو وسط البلد. وراء ظهورنا، تسقط كرة من النار فى النهر، بؤرة جديدة من اللهيب المتقد فى المياه. السماء أيضا رمادية، أى فرق بين ما نراه وبين الغسق الرائق الذى اعتدنا رؤيته على النيل فى هذا الوقت من النهار. دار الأوبرا جسم مظلم عن يميننا، وتكاد لا تتبين الارتفاع الرشيق الذى هو برج الجزيرة. نحن لا نعرف هذا بعد لكن أنوار القاهرة لن تضاء الليلة.
صيحة عظيمة تصعد من كوبرى قصر النيل. أنظر إلى سالمة ومريم فتقولان: أيوه، ياللا! أخبر المراكبى أننا غيرنا رأينا: لن نعبر النهر، نريد أن ننزل تحت كوبرى قصر النيل.
وهكذا ظهرنا، أنا وشابتان جميلتان، فى ذلك الممر الذى يصل الكورنيش تحت كوبرى قصر النيل وسط عربات الأمن المركزى التى تتسابق لتخرج من المدينة، وزعق الرجال والشباب المتكدسون على السور الذى يعلونا «إجروا، إجروا!» وأمسكوا لحظات عن رمى العربات بالطوب إلى أن جرينا عبر الممر ووصلنا إلى حيث نستطيع أن نصعد إلى الشاطئ وننضم إلى الناس عند مدخل الكوبرى.
فى ذلك اليوم، قطعت الحكومة ــ النظام الذى حكمنا ثلاثين عاما ــ قطعت اتصالاتنا: التليفونات المحمولة معطلة، وشبكة الإنترنت معطلة على نطاق مصر كلها. الآن أرى أن هذا ربما أفاد فى تركيز أذهاننا، إرادتنا، طاقتنا: كان الفرد منا فى مكان واحد، ملتزم به تماما، لا يعرف شيئا عن أى مكان آخر، يدرك أن عليه أن يفعل كل ما فى وسعه لهذا المكان، واثق أن الآخرين فى الأماكن الأخرى يفعلون الشىء نفسه.
تسلقنا المنحدر فوجدنا أنفسنا جزءا من الجماهير، حين رأيناهم عن بعد بدوا كتلة واحدة، صلبة. عن قرب هم أفراد، أفراد كثر، بينهم مسافات صغيرة تستطيع أن تجد لنفسك مكانا فيها. وقفنا على الرصيف فى وسط الطريق. كوبرى قصر النيل وراءنا، والتحرير أمامنا، ونحن نقوم بذلك الفعل الذى يجيده المصريون، والذى لم يدخر النظام جهدا فى سبيل تدمير قدرتنا عليه: ضم الصفوف، الوجود كأفراد هم خلايا فى جسم واحد ضخم متحد الهدف والمشروع، فى مجهود جمعى ضخم؛ وفى هذه المرة كان مشروعنا هو أن ننقذ ونستعيد الوطن. وقفنا، أنا وبنات أخى على تلك الجزيرة وانضممنا، فى تلك اللحظة، للثورة.
قبلها بشهر، بأسبوع، بيومين، لم يكن أحد ليتوقع أن كل هذا سوف يحدث. نعم، كان هناك نداء لاتخاذ «عيد الشرطة»، ٢٥ يناير، مناسبة للنزول فى مظاهرات، ولكن ما أكثر المظاهرات والاحتجاجات التى نزل الناس إليها فى الأعوام الماضية؛ لم تبدُ هذه المناسبة أهم من غيرها. من كان منّا فى مصر انتوى النزول من باب المشاركة والحفاظ على روح المقاومة، أما من كان فى الخارج فقال خيرها فى غيرها.
عن نفسى، كنت فى الهند، فى مهرجان جايبور الأدبى، وفى مساء الرابع والعشرين من يناير أجرى معى تلفزيون تِهِلكا الهندى لقاء، كان آخر ما قلت فيه:
«فى السنوات الخمس الماضية شاهدنا فى مصر احتجاجات واضطرابات فى الحياة المدنية بشكل غير مسبوق. وهذا جيد، هذا جيد، ولكن كيف سيندمج كل هذا ويتكتل؟ وأى الأشكال سيتخذ؟»
عندنا اليوم بدايات الإجابة، وأنت، يا قارئى، عندك الإجابة الأكثر نضجا، وأنت تقرأ هذه الكلمات، عنى وأنا أسطرها فى صيف عام ٢٠١١. لن أحاول التكهن بأخبار مصر التى تجدها فى جرائدك اليوم، ولكن أيا كان شكل مصر وأحوالها وأنت تقرأ كلماتى، فهذه قصة بعض اللحظات التى أدت إلى ذلك الشكل وإلى تلك الأحوال.
وهى أيضا، بشكل ما، قصتى، وقصة مدينتى، المدينة التى أعشقها، والتى حزنت لها وعليها طوال عشرين سنة أو أكثر. حالتى ليست متفردة، لكن مدينتى متفردة. طرقاتها، نيلها، مبانيها، آثارها، تهمس لنا، لكل واحد من ساكنيها المشاركين فى هذه الأحداث التى ترسم حياتنا وحياة أولادنا، تهمس لنا، تمسك بأكمامنا، وتقول: وُلِدْتِ هنا، وفى هذا الممر الهادئ أمسك فتى بيدك لأول مرة، فى هذا الطريق تعلمتِ قيادة سيارة فولكسواجن قديمة، هذا القصر يصوره كتابك المدرسى وفى حوشه أحمد عرابى يواجه الخديو توفيق، هذا هو الموقع الذى تحكى أمك كيف وقَفَت فيه مع أبيك يرقبان الحريق يشب فى المدينة. تُقَرِّب القاهرة شفتاها من آذاننا، تتأبط أذرعنا فى حميمية، تشدنا إليها فتسرى فينا دقات قلبها ويملأ عطرها أرواحنا فنسير إلى جانبها، نوائم خطواتنا على خطواتها، وتتملى عيوننا فى وجهها الجميل الجريح، ونهمس بدورنا: ذكرياتك ذكرياتنا، ومصيرك مصيرنا.
عشرون عاما وأنا أتجنب الكتابة عن القاهرة. أخاف الألم. لكن المدينة ظلت دائما قريبة منى، تشرئب لتنظر من وراء كتفى، ترفع أمام عينىّ العدسة التى أفسر من خلالها العالم، تبعث بأصدائها فى كل ما أكتب. كان هذا يؤلمنى، والآن اختفى الألم: لأن مدينتى عادت إلىّ.
«مصر» هو اسم بلدنا. و«مصر» هو الاسم الذى يطلقه المصريون على القاهرة. ويوم الثلاثاء، أول فبراير، وقفت أرقب رجلا يرقب المشهد فى التحرير وعلى وجهه ابتسامة واسعة: كانت الشمس مشرقة وكان الناس فى كل مكان، كبار وصغار، أغنياء وفقراء، يتناقشون، ويتمشون، ويغنون، ويلعبون، وينكتون، ويهتفون. ثم قالها الرجل، قالها بصوت عالٍ: «والله زمان يا مصر، وحشتينا!»
***
على تلك الجزيرة، عند مدخل التحرير من نهاية كوبرى قصر النيل، تدور ٣٦٠ درجة فترى الناس فى كل مكان. آلاف لا تحصى. وأياد تمتد لتعطيك مناديل ورقية مغموسة فى الخل لأنفك، بيبسى لتغسل عينيك، ماء لتشربه. تعثرت فأخذت يدٌ بمرفقى، تسندنى. الطريق أمامنا يختفى وراء سحب الدخان، ومن حين لآخر نرى انبثاقا من لهب. الفنادق الكبيرة: السميراميس إنتركونتينينتال، وشبرد، وهيلتون رمسيس، أظلمت طوابقها السفلى وأوصدت أبوابها. ومن شرفات الأدوار العليا نرى أطياف ناس يرقبوننا. وفى الجانب الآخر من الميدان، من فوق سطح الجامعة الأمريكية، كان القناصة يرقبوننا أيضا. فى صمت. أصوات الضرب لا تتوقف، ومن حين لآخر نسمع حشرجة متقطعة. وقفنا. كان هذا دورنا؛ نحن الذين كنا فى الظهيرة، نقف ونهتف «سلمية! سلمية!» واخواننا فى المقدمة، اخواننا العُزَّل، يواجهون رصاص قوات الأمن. ومن حين لآخر تتصاعد صيحة عظيمة؛ أصدقاؤنا أخذوا لنا عدة أمتار من الأرض، نتبعهم ونقف. ارتفعت أصواتنا بنشيدنا الوطنى. يوم ٢٨ يناير، على ذلك التقاطع الخطير، والنيل وراءنا، ومبنى جامعة الدول العربية إلى يسارنا، والمقر القديم لوزارة الخارجية إلى يميننا، وأمامنا لا نرى سوى الغاز والدخان والنيران تحول بيننا وبين عاصمتنا، وقفنا، تمسكنا بالأرض وغنينا وهتفنا وائتمننا بعضنا البعض على سلامتنا وعلى حياتنا.
البعض منا استشهد
الكثيرون منا لم يكونوا قد أدركوا بعد حجم ما دخلنا عليه؛ حجم المشروع الذى دخلت عليه البلاد. كنا لا نزال نُسَمِّى ما نفعله احتجاجا، استمرارا لاحتجاجات السنوات العشر الماضية. كنت كلما نزلت القاهرة، أى ثلاث أو أربع مرات فى السنة، أنضم إلى شقيقتى ورفاقها فى الاحتجاجات: مسيرات لمساندة الانتفاضة الفلسطينية، مسيرات لمناهضة الحرب على العراق، مظاهرات ضد تزوير الانتخابات، مظاهرات لتطهير القضاء، لرفض محاولات النظام إعادة إنتاج نفسه بتوريث السلطة لجمال مبارك. مظاهرات ضد الفساد وضد ممارسات الشرطة والأمن. وكانت الحكومة تتعامل مع كل هذا بعنف وغباء.
حين ننظر الآن نرى تطورنا، من مجموعات صغيرة تجمع الدواء للانتفاضة، إلى ظهور مجموعة «كفاية» فى شوارع القاهرة، إلى إضرابات العمال فى المحلة الكبرى، إلى مرحلة بدا فيها أنه لم تتبق شريحة من شرائح المجتمع، من قضاة، ومحامين، وفلاحين، وأصحاب معاشات، وصحفيين، ومحصلى ضرائب، إلا وكانت فى حالة صراع مع الحكومة. وأراه أيضا فى أسرتنا، فمثلنا مثل الكثير من العائلات المصرية المهتمة بالشأن العام، نجدنا الآن فى جيلنا الثالث من النشطاء، وهذا الجيل الثالث، الشاب، يتمتع ببراعة، وفاعلية، وروشنة، تفوق بكثير ما كان عندنا.
جزء مقتطف من كتاب د. أهداف سويف «القاهرة: مدينتى، وثورتنا»، الذى نشرته دار بلومزبرى فى بريطانيا فى ١٩ يناير. والكاتبة تعمل الآن على إعادة كتابته بالعربية.