نثر «التوحيدى» وإشاراته! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 14 نوفمبر 2024 6:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نثر «التوحيدى» وإشاراته!

نشر فى : السبت 28 سبتمبر 2024 - 7:30 م | آخر تحديث : السبت 28 سبتمبر 2024 - 7:30 م



(1)
وما زلت أتابع الحديث عن أبى حيان التوحيدى (ت 300 ه) مثقف القرن الرابع الهجرى ومغتربه الأكبر!

يعتبر المؤرخ والمستشرق الهولندى آدم ميتز فى كتابه المرجع «الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى» الذى ترجمه إلى العربية محمد عبدالهادى أبوريدة، وكتب له المقدمة المرحوم أحمد أمين، يعتبر ميتز التوحيدى أعظم كتّاب النثر العربى على الإطلاق!
أذكر جيدًا أن نص ميتز هذا قد انتشر وشاع، وتقريبًا لم يخلُ مقال أو دراسة عن التوحيدى من الاستشهاد بهذا النص أو الإشارة إليه للتدليل على مكانة أبى حيان التوحيدى فى النثر العربى، وعلى تسيده منفردًا غير منازع لعرش كتابة النثر العربى، وكتّابه على السواء (بمن فيهم المقفع والجاحظ وعبدالحميد الكاتب).
والحقيقة أن «التوحيدى» وكتابته ونثره وأسلوبه الأدبى واللغوى دون أدنى مجاملة أو مبالغة قد بلغ الذروة فى جمال الصياغة العربية، واستثمار القدرات والطاقات الفنية الهائلة التى تتيحها العربية لأبنائها والمتكلمين بها والمتخذين منها لغة للإبداع والمعرفة والتأمل والتفلسف أيضًا!
وربما كانت هذه هى المزية الكبرى التى تميز بها التوحيدى عن غيره من السابقين أو اللاحقين.. فقد مد التوحيدى خيط ترجمة الأفكار والتعبير على استقامته لأقصى درجات الإبداع والابتكار والخلق!
التفت إلى هذه القدرة ناقدنا التأويلى العظيم مصطفى ناصف الذى خصص له (ولكتابه المدهش «الإشارات الإلهية») واحدًا من أمتع فصول كتابه «محاورات مع النثر العربى» (هذا الكتاب المهدور الذى لم ينل ما يستحقه من اهتمام وحفاوة) بعنوان «أبوحيان قارئًا لثقافة عصره».
يرى الدكتور ناصف، أن أبا حيان أدرك أن صداقة النفس عزيزة المنال. وأن «تأملاتنا» و«خواطرنا الذاتية» تعكس مواقفنا من أنفسنا ومواقفنا من الكلمات التى نستخدمها، ويرى الدكتور ناصف أن التوحيدى كان من المقدرة والثقافة والمعرفة للدرجة التى تؤهله إلى تأمل هذه العلاقة بيننا وبين اللغة (الكلمات) وأن كل كلمة فضلًا على معناها المتداول هى بذاتها «عملة جديدة قابلة للتداول بمعانى ودلالات أخرى» نكسبها نحن إياها من روحنا وأفكارنا وعواطفنا ومن خلال خبرات اتصالنا بالعالم من حولنا، وفى القلب منها اتصالنا بالخالق جل وعلا.
يقول: «لقد درجنا على استعمال كلمات من قبيل الهلاك والباطل والاعوجاج دون مبالاة.. أما أبوحيان فحريص على أن يضع مثل هذه الكلمات فى بؤرة الضوء ليعيد اكتشاف أهميتها. ليس لنا أن نتنكر لها أو نزعم أننا أغنياء عنها!».

(2)
لن أطيل فى عرض أفكار وتأملات و«تأويلات» العظيم مصطفى ناصف لنصوص التوحيدى (فهى متاحة على كل حال فى كتابه المشار إليه أعلاه) لكنى أضع القارئ مباشرة فى مواجهة بعض نصوص التوحيدى فى «إشاراته الإلهية»؛ وأعرض سريعًا نماذج قصيرة للغاية من نثره الجميل، ومناجاياته الحارة التى بثَّها فى كتابه هذا «الإشارات الإلهية» أحد أندر وأثمن نصوصنا التراثية فى التصوف والدعاء والمناجاة الذاتية، والحديث مع الله (حققه وقدم له المرحوم الدكتور عبد الرحمن بدوي).
تلك النصوص التى يصفها ناصف بعبارة موجزة رائعة "فى هذا اللون ينكر التوحيدى الاسترسال، ويحن دائمًا إلى العبارات الموجزة المتوالية التى تحدث رنينًا صوتيًّا ونفسيًّا أخاذًا متوارثًا". لنسمع..
يناجى التوحيدى ذاته فى «الإشارات»، فيقول:
«فأما حالى فسيئة كيفما قلبتها؛ لأن الدنيا لم تؤاتنى لأكون من الخائضين فيها، والآخرة لم تغلب علىّ فأكون من العاملين لها.. وأما ظاهرى وباطنى فما أشبه اشتباههما! لأنى فى أحدهما متلطخ تلطخًا لا يقربنى من أجله أحد، وفى الآخر متبذخٌ تبذخًا لا يُهتدى فيه إلى رشد».
ويقول أيضًا:
«والله يا رفيقى وشريك زادى، لقد صحبت الليالى ستين عامًا مذ عقلت، فما غدرنى إلا من استوفيتُه، ولا كدّر علىّ إلا من استصفيتُه، ولا أَمرَّ (من المر عكس الحلو) لى إلا من استحليتُه، ولا أهمل أمرى إلا من استرعيتُه، ولا قذِيَتْ عينى إلا بمن جعلتُه ناظرها، ولا انحنى ظهرى إلا بمن نصبتُه عمادَه، ولا نجمتْ لى نجاةٌ إلا من حيث لم أحتسب، ولا سبقتْ إليَّ مسرّةٌ إلا ممن لم أكتسب».
ويقول أيضًا: «الغبطة فى النَّجْوَة (النجاة) من هذه الدار.. إلى محل لا ألم فيه ولا أذى.. إلى محل تجد فيه النعيم صافيًا، والحق باديًا.. إلى محل لا يعتريك فيه ملل، ولا ينتابك فيه علل.. حيث يحكمك المولى فتتحكم، ويدنيك إلى حضرته فتنعم».
وأخيرًا يناجى التوحيدى ربه، فيقول:
«فبحقك وبعزتك إلا أرضيتَ وتغمدتَ، وأحسنتَ وتفضلتَ. فقد كدنا نحكى عنك ما يبعدنا منك، ولو حكينا ذلك لكان فى حِلمك ما يسعُنا، ولكنا نخاف خلقك الجاهلين بك، فإنهم يضيقون عما تسع، ويجهلون ما تعلم، ويبخلون ما تجود، ويغصون ما تسيغ».
ووالله إن هذا لعين حالى، وربما حالنا جميعًا فيما نحن فيه!