الرقـص مع الذئاب - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 6:39 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الرقـص مع الذئاب

نشر فى : الخميس 1 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 1 مارس 2012 - 8:00 ص

قاربت المرحلة الأولى من «محاكمة القرن» كما يسمونها الانتهاء بتحديد يوم 2 يونيو المقبل موعدا للنطق بالحكم، لكن مجريات هذه المحاكمة أثبتت أنها لا تستحق هذه التسمية إلا من واقعة أن الشعب المصرى يحاكم طاغيته للمرة الأولى فى تاريخه. أما شخوص المحاكمة المتهمين فيها وفى مقدمتهم الرئيس السابق فقد حولوها إلى «مهزلة القرن» إذا جاز التعبير. بدا هذا واضحا منذ اللحظة الأولى عندما دخل مبارك قاعة المحاكمة نائما على سرير. تفرست يومها فى وجهه جيدا لعلى أجد تفسيرا لهذا المشهد المهين لرئيس مصرى حتى وإن كان «مخلوعا»، فوجدت الملامح الجامدة نفسها التى كان يطل بها علينا قبل الثورة، ولم يبد أنه يعانى من شىء خطير يبرر هذه المهانة. هل تصور صاحبنا بهذا أنه سوف يستدر عطف الشعب المصرى؟ إذا كان الأمر كذلك فهو يعنى أنه مازال لا يفهم شيئا مما فعله بيديه إبان عقود ثلاثة من حكمه هذا الشعب. تذكرت يومها صدام حسين الذى تمت محاكمته فى ظل الاحتلال، وكيف وقف شامخا طيلة المحاكمة يدافع عن سياساته بما فى ذلك أخطاء فادحة كغزوه الكويت فى 1990. يقارع قاضيه المتحيز الحجة بالحجة، ويقاطعه كلما رأى منه تجاوزا، وينفعل عليه بين حين وآخر مذكرا إياه بأنه مازال الرئيس الشرعى للعراق لأن الاحتلال لا يخلق شرعية، وليس على طريقة الحواة المبتدئين التى ابتدعها «الديب» فى مرافعته، أما صاحبنا فلم تزد مشاركته فى «محاكمة القرن» عن عبارات مثل «موجود يا افندم ــ كل هذه الاتهامات باطلة- شكرا يا ريس ــ أكتفى بمرافعة الدفاع»، وهو سلوك يشير إلى شخصية تفاءل بها الشعب المصرى فى بداية حكمها، ومنحها الفرصة تلو الأخرى ليجد وطنه قد نُهِبَ بالكامل فى نهاية العقود الثلاثة لحكمه وفقا لنبوءة جمال الغيطانى فى رائعته «ذكر ما جرى».

 

سامحك الله يا أستاذ هيكل، فقبل كتابك الأخير كان الشائع بين المصريين أن صاحبنا هو أول رئيس «موظف» لمصر، وأنه انحرف فى السنوات الأخيرة لحكمه فصاهر المال لتُنهَبَ ثروات وطنه نهبا من قبل المحيطين به من رجال الأعمال مقابل «فتات» تركوه له، لكن هذا «الفتات» كان كافيا لأن يعيش عيشة «العز» التى بدا متعلقا بها فى أول حوار بينه وبين هيكل، لكن كتاب الأستاذ هيكل فتح أعيننا على أن الأمر أخطر بكثير من نهب ثروة وطن أو استبداد بشعبه، وإنما هو امتهان الكرامة الوطنية لمصر على نحو لا يصدق، فهو يقبل أن يتأخر رئيس دولة عربية صغيرة عن موعده معه لأنه «يجرى بروفات لملابسه مع المجموعة الأجنبية المكلفة بذلك»، وهو لا يكتفى بهذا وإنما يقبل أن تهدى له ثلاثون قطعة من القماش ــ الفاخر ــ لكى يحاكى رئيس تلك الدولة على نفقة الأخير طبعا، وتمتد المهانة إلى زوجته «بتعيين» منسق خاص لهدايا حكام الخليج لها نظرا لما يحدث أحيانا من تكرار فى هذه الهدايا، وهو يقبل على وطنه أن يطلب من القذافى شراء طائرة جديدة للرئاسة المصرية كى يجارى مظاهر الأبهة والترف التى استجدت على الطائرات الرئاسية منذ أهدى الملك فيصل واحدة إلى السادات. وهو يقف حائرا أمام رسالة حملها من السادات بصفته نائبه إلى الملك حسين لا يجد جوابا عن سؤال الملك عن بعض ما ورد فيها حتى يشبهه الرجل بحامل حقيبة يلتزم بأوراق يحملها لكنه لا يستطيع شرحها، وغير ذلك الكثير من مظاهر المهانة التى لا تتصل مباشرة بموضوعنا، ومن المؤلم على أى مصرى أن تُنسَب لرئيسه حتى وإن كان «مخلوعا» بفضل ثورة شعبية.

 

•••

 

عادت بى الذاكرة إلى ما سجله مسئولون عرب كبار عن لقائهم أو لقاء رؤسائهم الأول مع عبدالناصر، وكان معظمهم لا يصدق أصلا أن هذا يمكن أن يحدث، فإن صدقوا اجتاحهم شعور هو مزيج من الارتباك من رهبة اللقاء والاعتزاز بأنهم سوف يلتقون هذا القائد التاريخى، وكان عبدالناصر يهدئ فى لطف من روعهم إلى أن تدب الحرارة فى اللقاء، ومن أراد مثالا رائعا على هذا فليقرأ مذكرات المناضل الفلسطينى العملاق شفيق الحوت وهو يسطر مشاعره قبل لقائه الأول عبدالناصر وأثناءه. وبعد هذا يتحدثون عن تفسير لتراجع دور مصر حتى وصل أحيانا إلى الحضيض. كان التفسير الشائع ــ ومازال صحيحا ــ أن تردى قدرات مصر الاقتصادية بفعل الفساد فى عهد مبارك هو السبب الأصيل فيما حدث، بينما واقع الأمر أن هناك ربما ما هو أهم، وهو أننا كنا إزاء رئيس «صغير» لدولة عظيمة، ويمنعنى الأدب من ذكر الوصف الحقيقى لهذا الرئيس فى السياق الحالى. هو لم يفهم بعد كل هذا العمر الذى يعيرنا بأنه قضاه فى خدمة مصر حرفا واحدا على سبيل المثال مما ورد فى «فلسفة الثورة» لجمال عبدالناصر بخصوص الدور الخارجى لمصر، ناهيك عن أن يكون قد سمع بكتاب جمال حمدان عن «شخصية مصر»، وهكذا استمرأ فى النصف الثانى من مدة حكمه الطويلة أن يكون دور مصر فى الوطن العربى هو دور «المتسول»، وأن يترفع دون سبب مقنع عن التعامل مع بلدان أفريقيا التى بنت مصر من خلالها جزءا يعتد به من مكانتها الدولية إبان مرحلة التحرر الوطنى، غافلا عن أن قضية القضايا فى مصر هى مياه النيل، وأن يرضى بدور التابع المرتعش لإسرائيل، ولا مانع من أن يتربح من العلاقة معها هى الأخرى.

 

•••

 

دخل صاحبنا بهذه «المواصفات» إلى «محاكمة القرن»، لكن محاميه «الديب» نجح فى تحويل المأساة إلى مهزلة، فقد بدا كحاوٍ مبتدئ يتقاذف الكرات بين يديه لكى تخرج واحدة منها فى النهاية من فمه، ولو كنت لا قدر الله فى مكان صاحبنا لما رضيت أصلا أن يدافع عنى ــ مع كل التوقير اللازم لمهنة المحاماة ــ شخص اكتسب معظم شهرته من الدفاع عمن تجسسوا على وطنه. أدخلنا «الديب» فى سيرك سخيف، فهو تارة يقول إن مبارك مازال رئيسا للجمهورية لأن الثورة لم تتبع أسس النظام الاستبدادى الفاسد الذى خلقه، ومن ثم فهو يريد مثلا أن يكون مجلس الشعب الذى زور مبارك انتخاباته كما لم تزور انتخابات من قبل هو ضابط حركة الثورة، وهو تارة أخرى يناقض نفسه بالقول بأن مبارك قد عاد الآن بعد أن ترك الرئاسة(!) إلى صفته كفريق فى القوات الجوية، ومن ثم فإن مثوله أمام المحكمة التى تولت محاكمته مخالف للقانون الصادر فى عام 1979، والذى يقضى بأن جميع قادة أفرع القوات المسلحة وهيئة العمليات بها يحتفظون بمناصبهم ومستمرون فى الخدمة بالقوات المسلحة حتى مماتهم، وبالتالى فإن جهة التحقيق مع مبارك يجب أن تكون النيابة العسكرية. وعلى هذا المنوال حاول «الديب» أن يقود رقصة «سخيفة» فى المحكمة غرضها الوحيد إنقاذ مبارك.

 

ثم يضيف «الديب» إلى رقصته السخيفة بعض «الحركات» التى تجعل «صاحبنا رئيسا ماشافش حاجة»، فلا علاقة له ببيع الغاز إلى إسرائيل، لأن المخابرات العامة هى المسئولة عن ذلك، مع أنه يقرر أن مبارك وعد رابين رئيس الوزراء الإسرائيلى بتصدير الغاز المصرى لإسرائيل قبل اكتشافه، وهو أمر يرى «الديب» أنه جعل مصر «تركب» عملية الطاقة فى إسرائيل بينما واقع الأمر أن إسرائيل هى التى «ركبت» عملية صنع القرار فى مصر، وهو بطبيعة الحال لا يدرى شيئا عن موضوع قتل المتظاهرين الذى غطته بإسهاب كافة الفضائيات التليفزيونية، وكأنه إبان الثورة كان منشغلا بمشاهدة بعض مباريات الكرة بينما بلده مهدد بحريق لا يبقى ولا يذر، وهو رئيس على درجة من «البلاهة» تجعله يشترى فيلتى شرم الشيخ من حسين سالم بنصف مليون جنيه لكل منهما، بينما الثمن الحقيقى وفقا لتقارير الخبراء لا يتجاوز المائتى ألف: «استكردونا يا افندم».

 

•••        

 

فيا من تتوقعون أن يأتى الحكم على مبارك مخيبا لآمالكم اعلموا أنه لا يجب أن يحاكم أساسا على إراقة دماء الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل صنع فجر جديد لوطنهم، وإنما على امتهان وطن كان له يوما دوره القيادى بين أمم العالم، ونهب ثرواته إلى الحد الذى أفقر شعبه لصالح حفنة من رجال الأعمال ألقوا له بقطعة من لحم الوطن، ولتستعدوا من الآن لمطالبة جديدة تستند إلى صحيح القانون وليس إلى منطق الثورة وحده لأن تجرى لصاحبنا المحاكمة التى يستحقها جزاء ما اقترفه فى حق الوطن على مدار ثلاثة عقود.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية