على من نطلق الرصاص؟ - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 5:51 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

على من نطلق الرصاص؟

نشر فى : الخميس 29 أبريل 2010 - 11:49 ص | آخر تحديث : الخميس 29 أبريل 2010 - 11:49 ص

 أعتذر للأخ العزيز مصطفى بكرى عن استخدام السؤال الذى عنون به تعليقه الموجز فى صحيفة الأسبوع فى عددها الأخير على ما جرى فى الاجتماع المشترك للجنتى الدفاع والأمن القومى وحقوق الإنسان فى مجلس الشعب فى الثامن عشر من أبريل الجارى، وكلانا قد استخدم عنوان فيلم مصرى شهير ظهر منذ عقود وتضمن فى طياته حيرة بين منطق القانون ومنطق الشرعية السياسية. بدأت الأحداث على نحو ما هو معلوم بوقائع الاجتماع ذاته الذى فجر فيه نائب واحد على الأقل ينتمى إلى الحزب الحاكم ونائب آخر يفترض أنه يمثل حزبا معارضا مفاجأة مطالبتهما وزير الداخلية بإطلاق الرصاص على المتظاهرين فى سياق مناقشة طلبات الإحاطة التى قدمت بشأن تعامل الشرطة مع شباب 6 أبريل فى مظاهرتهم الأخيرة. ونوه النائب بأنه لو كان الأمر بيده لاستجوب وزير الداخلية بسبب «حنيته الزائدة» فى التعامل مع المتظاهرين.

لم أكن قد سمعت من قبل هذا الرأى يقال علنا تحت قبة البرلمان إلا من وزير الداخلية الأسبق زكى بدر الذى أعلن صراحة أن تعليماته تتضمن توجيه الرصاص إلى سويداء القلب فى التعامل مع المطلوبين. لكن هذه السياسة التى فجرت حينها ما فجرته من اعتراضات لا ترقى بحال إلى ما طالب به النائبان المذكوران؛ لأن وزير الداخلية وقتها كان يتحدث عن سياسته فى مواجهة «الإرهابيين» المطلوبين من الدولة، وعلى الرغم من أن مطالبة النائبين وسياسة وزير الداخلية آنذاك مرفوضتان بالدرجة نفسها من المنظور الحقوقى فإن البون شاسع بالتأكيد بين من يطلق الرصاص على «إرهابيين» لجأوا إلى العنف وترويع الآمنين وبين متظاهرين لا يملكون سوى حناجرهم وجرأتهم للتعبير السلوكى عن معتقداتهم.

حاول البعض تخفيفا للصدمة أن يتحدث عن تشويه ما قاله النائبان، وربما يكون قد حدث قدر من عدم الدقة فى نقل ما ذهبا إليه، لكن جوهر مطالبتهما بقيت موضع إجماع، ومن الصعوبة بمكان أن تجمع كل الصحف المستقلة والمعارضة التى حضر ممثلوها الاجتماع على حدوث الواقعة وعلى قاسم مشترك فى وصف ما وقع دون أن يكون هذا الإجماع متضمنا الحقيقة حتى وإن شابها قدر من عدم الدقة. ولقد دافع النواب المتهمون بالتحريض على إطلاق النار على المتظاهرين عن أنفسهم بنفى ما هو منسوب إليهم، لكن من يقرأ دفاعهم بدقة قد يجد أنه نفى من قبيل الإثبات مع قدر غير كاف من «التجميل». وعموما فقد حسم الأمين العام للحزب الحاكم السيد صفوت الشريف أمر حدوث الواقعة عندما أكد فى التقرير الذى قدمه فى اجتماع الأمانة العامة للحزب بعد يومين على الواقعة (20 أبريل) إدانة الحزب الكاملة للدعوة إلى استخدام العنف أو اللجوء إلى القوة، ورفضه كل تحريض على إطلاق الرصاص على أى مصرى، ثم جاء تفريغ شرائط تسجيل ما ورد فى الاجتماع قاطعا بشأن حدوث الواقعة.

ويبدو أن هذه الواقعة باتت تحتم علينا أن نناقش الرؤى السياسية الخارجة على المألوف لبعض عناصر النخبة التشريعية المنتمية للحزب الحاكم، فبعد أن خرجت علينا قيادة حزبية كبرى داخل البرلمان بتصريحات مست فى الصميم دور مصر التاريخى والشرف العسكرى لجيشها العظيم عندما صورته وكأنه جيش من المرتزقة لا يحارب إلا عندما يدفع له ها نحن إزاء التحريض الأخير على إطلاق النار على متظاهرين لم يلجأوا إلى العنف.

وأولى الملاحظات فى هذا الصدد أن العبارات التى استخدمت فى وصف هؤلاء المتظاهرين فى الاجتماع المذكور للجنتى الدفاع والأمن القومى وحقوق الإنسان تمثل استمرارا لحالة التدنى المخيف فى لغة الحوار داخل مجلس الشعب، وهو تدنٍ يقف القلم إزاءه عاجزا عن تسجيل العبارات والأوصاف المستخدمة فيه، غير أنه لا يقل أهمية عن ذلك منطق إطلاق الأحكام القاطعة، فالمتظاهرون فاسدون وشيوعيون ومأجورون. هكذا دون تحقيق أو حتى إعمال للعقل، فضلا عن أن تهمة العمالة للخارج تهمة خطيرة لا أتصور أن من أطلقها يملك دليلا عليها وإلا لتعين عليه أن يقدم بلاغا للنائب العام قبل المظاهرات ولا ينتظر وقوعها كى يلقى اتهامه تحت قبة البرلمان.

أما الملاحظة الثانية فأخطر بكثير، وهى تتعلق بمواجهة المتظاهرين بالرصاص الحى، ولو كان من طالب بهذا يعمل بالسياسة فعلا لأدرك أن العنف لا يولد إلا العنف، ومصر ولا حول ولا قوة إلا بالله لديها من العنف بشتى ضروبه ما يكفى سواء كان عنفا فرديا يفتك الأفراد فيه ببعضهم البعض لأتفه الأسباب، أو عنفا جماعيا كما نشهد حتى الآن للأسف فى جرائم الثأر بالغة الدموية أو أحداث الفتنة الطائفية ذات الوتيرة المتصاعدة وغيرها، ولن يولد تفاقم العنف إلا الفوضى التى يعلم الجميع خطورتها على حاضر مصر ومستقبلها. وإذا كان النواب الذين نسبت إليهم هذه التهمة قد قرأوا بعضا من تاريخ مصر فإننى أحيلهم إلى المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعى الذى يحدثنا فى الجزء الثانى من كتابه «فى أعقاب الثورة المصرية» عن عنف رجال الشرطة فى وزارة إسماعيل صدقى وصولا إلى قتل العشرات وجرح المئات، فماذا كانت النتيجة؟ لم تأت بالتأكيد كما يشتهى النائب الذى تساءل «هل نريد أن نحرق وطنا كاملا ولا نريد أن يسقط العشرات فى مقابل حماية الوطن؟»،ولكن النتيجة كما توقع أولو الألباب كانت مزيدا من العنف تمثل فى محاولات الاغتيال الفردية وتصعيد مظاهر النقمة على حكم إسماعيل صدقى فى شكل سلسلة من حوادث تفجير القنابل التى لم تهتد الشرطة إلى مدبريها فى معظم الأحوال. فهل هذا هو المصير الذى يريده المطالبون بتصعيد عنف الشرطة فى مواجهة المتظاهرين إلى حد إطلاق الرصاص؟ هل هذا هو المآل الذى يريده ذلك النائب الذى خاطب وزير الداخلية بقوله: «إحنا 80 مليون. بناقص شلة متجاوزة وفاسدة عايزين يرجعوا انتفاضة الحرامية»... فى تذكير لنا بنظرية «الثلث الضار» التى تجاسر حاكم عربى يوما على البوح بها مؤكدا استعداده للقضاء على «الثلث الضار» من شعبه فى مقابل حماية «الثلثين الصالحين» فزال هو وبقى شعبه وحوكم عهده من هذا المنظور تحديدا بعد وفاته بتوجيه من خليفته وأقرب الأقرباء إليه.

تبقى ملاحظة ثالثة وأخيرة تتعلق بأن هذا النوع من المطالبات يتناقض جذريا مع انتماء أصحابه إلى «مؤسسة» يفترض أن لها دورا قائدا فى توجيه مجريات الأمور فى مصر. بعبارة أخرى فإن منطق الفرد أو الأفراد عندما يطالبون بالخروج عن مألوف القانون والممارسة هو أن سبل التغيير أو حتى الإصلاح قد سدت أمامهم، ولذلك لم تبق لهم من وسيلة إلا الخروج على الوضع الراهن. ويختلف الحال جذريا فى حالة صاحبنا الذى ينتمى إلى مؤسسة يفترض أنه يستطيع إن أراد أن يوجهها فى طريق التغيير أو الإصلاح إلى الأفضل، وما دام يعتقد بأن ما وقع من مظاهرات محدودة من قبل شباب 6 أبريل يمثل تهديدا خطيرا للنظام والوطن فقد كان الأحرى به أن يحاول التعمق فى فهم أسباب ما يجرى وعلاجها سياسيا من خلال المؤسسة التى ينتمى إليها وليس علاجها أمنيا على هذا النحو. ويعنى ذلك أن مطالبته النكراء تعد من قبيل إشهار الإفلاس السياسى لا محالة.

أحسن المجتمع المصرى صنعا بسوء استقباله تلك الآراء المرفوضة قانونيا وسياسيا، وقد تبدى سوء الاستقبال هذا فى وسائل إعلامية مستقلة عديدة، وبعض التحركات الجماهيرية أهمها ما وقع فى دائرة النائب الذى نسبت إليه المبادرة بما جرى، بل لقد امتد سوء الاستقبال إلى بعض الدوائر الرسمية، وهو ما يفتح الباب للأمل فى أن تكون هذه الدوائر قد أدركت أن هذه النوعية من النواب تمثل عبئا عليها وليست إضافة لقاعدة قوتها. ولعل أثمن الدروس التى يمكن للحزب الحاكم أن يخرج بها من هذه الأزمة يتمثل فى ضرورة أن يحسن اختيار مرشحيه للانتخابات البرلمانية القادمة.

وعلى كل من يعنيهم الأمر أن يدركوا أن المواطن المصرى العادى أصابه الضجر والإحباط من هذه النوعية من النواب التى تقلبنا معها عبر السنين، ففى مطلع تسعينات القرن الماضى مكنت الآليات الحزبية و«العملية الديمقراطية» من وصول عدد من تجار المخدرات إلى عضوية مجلس الشعب، وفى النصف الثانى من العقد نفسه عرف الرأى العام قضية «نواب القروض» الذين اتهموا بالاستيلاء على ما يجاوز المليار جنيه من أموال البنوك الوطنية، وانتهى الأمر بفصلهم وإسقاط عضويتهم من المجلس، وشهد عام2002 مطلع هذا العقد فضيحة ما سمى بنواب سميحة، وإن لم يتخذ بشأن هذه الفضيحة إجراء محدد، وفى السنة التالية مباشرة تفجرت قضية «نواب التجنيد» ويقصد بها أن بعض الذين فازوا بعضوية المجلس كانوا من المتهربين من أداء الخدمة العسكرية، وحكم القضاء الإدارى بإسقاط عضويتهم، وعززت المحكمة الدستورية العليا بفتوى لها بطلان عضوية النواب الهاربين من التجنيد، ناهيك عن فضائح أكياس الدم الملوثة و«سيديهات» الصوت والصورة التى كان عدد من النواب أبطالا لها.

لا يفهم المرء كيف مر كل هؤلاء ــ وهم كثير ــ من مصفاة الحزب الوطنى الديمقراطى الذى يفترض أن حرصه على سمعته السياسية لا يقل عن حرصه على الحفاظ على الأغلبية التشريعية، ولذلك فلعل ما يجرى فى هذه الأيام يكون مناسبة للتكفير عن هذه الأخطاء، ففى الوقت الذى ينشر فيه هذا المقال تكون أعمال «المجمعات الانتخابية» المنوط بها اختيار مرشحى الحزب فى انتخابات التجديد النصفى لمجلس الشورى فى ذروتها، ولا تبدو البدايات مختلفة ومن ثم فهى غير مبشرة، فالصراع ما زال باقيا بين من تراه القيادة الحزبية الأصلح ومن بين يعتقدون أنهم الأصلح لنفوذ عائلى أو مالى أو غيره فى دوائرهم، وربما تكون الحيرة داخل أجهزة صنع القرار فى الحزب على أشدها بين اختيار الأصلح أو الأكثر نفوذا، ولذلك فإن المهمة ليست سهلة لكنها تستحق من أصحاب الفكر المستنير داخل الحزب الوطنى أن يتصدوا لها ليس من أجل حاضر مصر ومستقبلها فحسب وإنما من أجل حزبهم أيضا، فإطلاق «رصاص الرحمة السياسية» على تلك النوعية من النواب صار أمرا لا مفر منه إذا أريد لهذا الحزب أن يواصل مسيرته، فهل تكون قوى التجديد داخل الحزب على مستوى هذه المسئولية؟ أم أن مجريات الأمور سوف تثبت أنها أضعف من ذلك بكثير، وأن شعارات «التغيير» لم تكن سوى نوع من «العلاقات العامة» لا يحمل أى مضمون من قريب أو بعيد؟

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية